أفضل طرائق التفكير السياسي في سورية الراهنة هي التي تغامر في لقاءِ غيرِ المُفكَّر فيه، أو المسكوت عنه. مع أنها طرائقُ غيرُ مريحة، لأنها تدفع الجميع إلى خارج دوائر راحتهم الاعتيادية، وهذا مزعج، إلا أنها الأفضل، لأنها تنتجُ جديدًا بالضرورة؛ فهذا البلد ينطبق عليه تعبيرٌ قاله غرامشي مرّةً: “مات القديم لكِنَّ الجديد لم يُولد بعد”. ولا يَنتُج جديدًا من طرائق قديمة إلا نادرًا. وفي سياق هذه المغامرة نفسها، قد نُفكِّر في معنى الكرامة على مستوى السياسة، أي المعنى المَديني للكرامة؛ فلا يوجد مشروع سوري لافت للإجابة عن مقاربة المعنى السياسي لمفهوم الكرامة، مع أنها شعارٌ وهدفٌ منذ 2011؛ وثمّة في السويداء مثلًا ساحة سُمّيت باسمها أخيرًا لتكون مكانًا للتظاهر والسعي إلى الحرية. لم يأخذ هذا النمط من التفكير حقَّه، وثمّة ما يُشبه التواطؤ، غير المقصود ربما، ليظلّ ضمن المَسكوت عنه، ومن ثم يظلّ الجميع في دائرة الراحة التي يكون فيها المرءُ راضيا عن أدائه من دون كثيرٍ من التعب. ونميل إلى القول إن مفهوم الهُوية هو الذي يحمل مسؤولية هذا التواطؤ، فمشروع الكرامة على المستوى السياسي يهدّد الهُوية، بل يهدّد فكرة الهُووية برمتها، ويقوِّض أركانها الثاوية في الـ”من أنا” أو الـ”من نحن”: إن مشروع الكرامة بهذا المعنى صراعٌ بين الـ”أنا أكون” والـ”أنا أفكِّر”. الأول سؤالٌ ليس له عندنا إلا إجاباتٍ هووية، تحيل على انتماءٍ جاهزٍ موروثٍ مريحٍ لا يحتاج إلى تفكيرٍ بقدر ما يحتاج إلى نَعرَة، والثاني سؤالٌ ليس له إلا أن ينسف الإجابات الهُووية عن الأول؛ فيطابق فعلي التفكير وفهم الذات. نقولها بعبارةٍ أبسط: الـ”أنا أكون” وصفةٌ جاهزةٌ للانتماء مثل “أنا سنّي”، “أنا درزي”، “أنا من البقارة”، “أنا من العقيدات”، “أنا عربي”، “أنا كردي”، “أنا من المقداد”، “أنا من العظم”، إلى ما هنالك. بينما الـ”أنا أفكِّر” يعني السؤال دائمًا أين تكمن مصلحتي، ومصلحة أبنائي؟ وكيف أعيش مع الآخرين سعيدًا سالمًا مُرَّفهًا حاصِلًا على حقوقي وحقوق أبنائي في التعليم والصحّة والعمل والتقدير، وإلى ما هنالك؟ أي أن الـ”أنا أفكِّر” في السياسة في هذا الزمان تساوي الـ”أنا سوري”. ولا يبدو مُمكنًا أن تكون لنا كرامة على مستوى الـ”أنا سوري”، ونحن لا نزال ندخل إلى العمومي من بوّابة الذاكرة الهُووية، كُلًا بعباءة جَدِّه؛ فالكرامة في العمومي من دون عُبي قديمة ولا جديدة. وعليه، المعادلة التي يمكن أن تكون مدخلًا لتحدّي العُقم السياسي الراهن هي جهاد النفس ضد الكسل، وتحدّي الهُوية، وبسط الفكر، وصولًا إلى “أنا أكون” تساوي الـ”أنا أُفكِّر”: يعني أن يُعرِّف المرء وجوده العمومي، أو وجوده السياسي، بوصفه “أنا” سوريًا، فحسب. تصير الـ”أنا أكون” تساوي الـ”أنا أفكِّر” عندما نخلع الهُووية على عتبة السياسي. وبهذا المعنى، تصير الوطنيّة (تأسيسيًا) مفهومًا غيرَ هووي أيضًا. قد يكون هذا الطرح غريبًا، ولكن لنفكِّر فيه؛ ففيه كثير ممَّا يستحق التفكير، وأهم هذا الكثير صوْن حيواتنا، أو حيوات من تبقى منَّا بعد كل المعارك الهُووية التي خُضناها. لا هوية وطنية، ولكن رأس مالٍ اجتماعي وطني توافقي طوعي يراكمه الجميع، ويقترض منه الجميع، ويعود بالخير على الجميع. يقودُنا هذا التفكير إلى القول إن المدخل إلى التكوين السياسي الجديد يمرّ من عتبة منهجية مهمّة وضرورية هي اللاهووية، أي المدخل اللاهووي للوطنية؛ وهكذا صار لدينا سؤالٌ أكثرَ تحديدًا: ما هو المدخل اللاهووي للوطنية السورية الذي يؤدّي إلى تكوين ثقافة سياسية جديدة تستند إلى الاختلاف الذي لا ينفي الآخر بوصفه طريقة وحيدة لتجنّب الحرب؟ المدخل هو الائتلاف، ولكن بطبيعة الحال ليس ائتلاف الشيء الذي يشير إليه اسم هادي البحرة، ولكن ائتلاف الموضوعات بوصفه الشيء الذي يهيئ المزاج العمومي للتعاقد الاجتماعي الحديث.
لا يستند التمثيل في ائتلاف الموضوعات إلى مبدأ الحصص الطائفية والمناطقية والعشائرية والهُووية، وغيرها
ولا يستند التمثيل في ائتلاف الموضوعات إلى مبدأ الحصص الطائفية، والمناطقية، والعشائرية، والهُووية، وغيرها، ولا توجد فيه أي حصّة للتابعين والإمّعات تزداد وتنقص بمدى تزايد نفوذ الدول التي يتبعون إليها، ولا جواسيس للنظام وغيره، مثل الحالة في الائتلاف الراهن؛ بل يستند التمثيل إلى الموضوعات والأفكار والقضايا التي ترقى لتكون قضايا وطنية ضرورية لمستقبل الإنسان السوري أينما كان، وأيًا كان، ومنها على سبيل المثال طبيعة الدولة، وطرائق تدبير الاختلاف، وشكل الحكم المستقبلي، ومسألة اللاجئين، والعدالة الانتقالية، والعسكرة التي تُدار بالسياسة الوطنية وليس بالفصائلية، وإلى ما هنالك من قضايا وطنية. الائتلاف الذي نعرف نتيجة هُووية، وائتلاف الموضوعات نتيجة حيوية، ولا كرامة سياسية لهُووي. وعليه إن الجماعات الهُووية كلها، وتحديدًا الطائفية والعشائرية، إذا احتملت الوقوف خارج دائرة راحتها، وبالفعل، أرادت الكرامة عملًا وليس شعارًا فحسب؛ ينبغي أن تؤهل ذاتها لاحتمال الحقيقة التي لم نفكِّر فيها بعد، وهي أن مشروع الكرامة يتطلب دخول العمومي بصفة غير هُووية بالضرورة.
يستند التمثيل إلى الموضوعات والأفكار والقضايا التي ترقى لتكون قضايا وطنية ضرورية لمستقبل الإنسان السوري أينما كان، وأيًا كان
وقد يكون هذا مهمًا لحالاتٍ واعدة وصاعدة في طريق الحرية مثل حالة السويداء. بوضوحٍ صادم ولكنَّه ضروري، نقول: في السياسة، لا كرامة لمن يتهوَّى، ولا كرامة لعقلٍ غير قادرٍ على توسيع دائرة المعقول. وهنا تتكشف المشكلة بين الهدف العمومي والهدف الديني من زاوية أخرى؛ فعقل الإيمان لا يقدر على توسيع دائرة المعقول، يمنعه كسله الناتج من يقينه، ويجد في الهُوية وليًا وحليفًا مُريحًا، ويرى في الانتماء الديني، ومن ثم أي انتماء هُووي، شرطًا للأخلاق؛ بينما إيمان العقل لا يرى الدين شرطًا للأخلاق، بل العكس يرى أن المرء يتدين لأنه متخلق ولا يكون بالضرورة متخلقًا لأنه متدين. العقل الأول أيديولوجيا الدين، والعقل الثاني هو الدين. الأول مثل عقل أحرار الشام وأشباههم، والثاني مثل عقل الشيخ أحمد الصياصنة، الذي كان إمام المسجد العمري في درعا في 2011، والذي يرى أن “مشكلة الثورة أنها تَعسكرَت وأنها تَأسلَمت”! بالتأكيد، يسعى الثاني (إيمان العقل) إلى كرامة الإنسان السوري أكثر، ومع ذلك منح كثيرون الوسائل الأقوى والاحتضان اللازم للأول (عقل الإيمان). بمعنى آخر، نتيجة كسلنا وغياب التفكير عنَّا، كنَّا نُحارب ضد كرامتنا! مهمٌ جدًا للقوى الجديدة على ساحة الحرية، مثل السويداء، أن تفكِّر في هذه النتيجة التي دفعنا ثمنها دمًا ودموعًا وألمًا كبيرا، وتستفيد منها، فهذه حفرةٌ لا ينبغي أن تقع فيها كرامتنا مرّتين. بديهيٌ جدًا القول إن وجود نظام الأسد لا يدع كرامةً لأحد، وأيضًا لنفكِّر أن لا كرامة لأي إنسان بوجود إرادة خارجه تتجاوز عقله وتتعالى عليه؛ فلا كرامة مع الهُووية، ولا كرامة أيضًا مع ذاكرة تحولت إلى مصدرٍ رئيسٍ من منابع الذات. لنفكِّر بجرأة في غير المفكَّر فيه، ولنتجرأ على النسيان؛ فهذا طريقُ الكرامة في السياسة، ووصفات الانتماء الجاهزة تعمل دائمًا ضد كرامتنا، وضد أصالتها، إذا حشرناها في العمومي.