–
تراودني نفسي الأمّارة بالحنين عن زيارة سورية بعد غياب طويل فرضته ظروف الحرب الجائرة التي شنّها نظام مجرم مستبدّ على شعب حرّ أبيّ ثار على الطغيان، ودفع الأثمان الباهظة من الأرواح والممتلكات والمصائر. شعب قَبِل الموت لا المذّلة. صبر وصابر وعضّ على الجرح طويلاً، وقدّم الشهداء بالآلاف، حتى حانت لحظة الحرّية الأغلى.
كان بهجت سليمان الذي شغل منصب سفير النظام البائد في عمّان، وطُرِد لاحقاً منها بعد أن تمادى وتجاوز الأعراف الدبلوماسية وأساء الأدب، قد تقدّم بشكوى رسمية ضدّي (وآخرين) لدى الجهات الأمنية بتهمة مساندة الثورة (يا لها من تهمة ويا له من شرف)، على خلفية نشاطي الإنساني في مخيّم الزعتري. ولمشاركتي، رفقة أردنيين أحرار، الانحياز إلى مظلمة الشعب السوري. أراد سليمان معاقبتهم لمساندتهم رموزاً في الثورة السورية أقاموا في عمّان، قبل أن يُشرَّدُوا في أصقاع الأرض، فأُدرجت أسماؤنا في قوائم النظام الهالك السوداء، وهي قوائم شرف أشدّ بياضاً من غيمة صيفية، وقد نلنا ما نلناه من حملات إساءة وتجريح وتشكيك وتشهير، من يساريّين متحمّسين لولاية الفقيه، مناصرين للدكتاتور الفارّ الذي أوغل في دماء الشعب المقهور، ولم تحقّق شكوى السفير المطرود إلا مزيداً من الخزي والعار، وأوضح تجاهلها من الجهات المختصّة توجّه الدولة الأردنية في دعم الشعب وحقّه في الحرّية والكرامة، وقد قدّم الأردن (حكومةً وشعباً) ما في وسعه من دعم إنساني ولوجستي للاجئين طوال سنوات تهجيرهم القسري، وها هم يعودون إلى وطنهم وبيوتهم أفواجاً، يتوقّفون في لحظة وداع عند الحدود ليقدّموا الشكر والعرفان لإخوتهم الأردنيين في وقفتهم النبيلة التي خفّفت من وقع اغترابهم الطويل.
صار في وسعي الآن زيارة سورية بسهولة، ومن دون تعقيدات إدارية، بعد أن ألغت وزارة الداخلية الأردنية شرط الحصول على الموافقة الأمنية. يرتجف قلبي فرحاً وأنا أتخيّل رحلتي إلى دمشق، سأتجوّل طويلاً في سوق الحميدية، وبعد زيارة المسجد الأموي، سأتوقّف عند مطعم أبو العزّ، وأتذوّق الصفيحة الشامية الشهيّة، وأنطلق إلى مقام الشيخ محيي الدين بن عربي، ألتمس فيضاً من السكينة، ثمّ أتوجّه إلى صيدنايا، سأصعد درج ديرها العالي، وأشعل شمعةً من أجل خلاص المعذّبين. سأزور حمص، وألقي التحيّة على أهلها الطيّبين، ولن أنسى حلب، والصبي (أصبح رجلاً الآن) الذي قادني ذات زيارة في زمن سحيق إلى سوق العرائس أو سوق النسوان، كما يسمّيه أهل حلب، وأصرّ على دعوتي إلى شرب القهوة مع والدته في بيتها الحلبي البسيط الجميل، المزنّر بأصص الورود.
ستصحبني الصديقة نسرين إلى بلدتها البديعة، جَبلة، في الساحل السوري، كي نشرب المتّة، ونسلّم على البحر. قد تحطّ بي الرحال في البدروسية، تلك القرية الخلّابة النائية المنسية المكتظّة بالنوارس والمطاعم الشعبية والصيادين، التي تتميّز بجمال طبيعتها وغاباتها المشرفة على البحر. سألتقي الصديقةَ المناضلة ندى الخش في مصياف. لطالما حدّثتني عن بلدتها الجبلية الجميلة في أثناء إقامتها الجبرية في إربد، جاءتها في زيارة اعتيادية لحضور ميلاد ابنتها المتزوّجة بأردني، وعلِقت بعد نشوب الحرب 14عاماً من الحنين إلى بيت ووطن وأرض، وكانت أوّل العائدين، وقد خلّفت رفيق عمرها مدفوناً في ثرى إربد. سأنتظر عودة صديقة العمر المناضلة ريما فليحان من منفاها في أستراليا، كي أرافقها إلى السويداء، جبل العرب، وموطن بني معروف الأحرار، أهل النخوة والأصالة والشهامة والجود.
سأزور سورية الحرّة الطليقة من جنوبها إلى شمالها، أتوجّس قليلاً لأنها في مرحلة تبعات الزلزال، تعاني بعض التجاوزات ومظاهر الانفلات الأمني والتشدّد الديني، لكنّي على يقين أن ذلك كلّه إلى زوال قريب، كي أحتفل مع الأحبّة بسورية الجديدة، المعافاة المتنوّعة المتعدّدة الجميلة البديعة، المدهشة بأطيافها كلّها.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
دلالات