لا تَرتَبِط الصُّورة فِي وُجودِهَا بِغايَات اسْتنْساخيَّة محض، فَهِي تُمثِّل لِمَا تَرغَب العيْن فِيه أو تزْدريه، إِنَّها تَبحَث فِي الأشْياء الممثَّلة عن الآثار التي يتركُها الإنسانُ فِيها. فذاك جزءٌ من الخبرة البصريّةِ فيها. لذلك لا تُسلِّم من المعاني إِلَّا مَا يَسمَح بِه اللَّفْظ أو يوهمُ أو يُوحي به. يَتَعلَّق الأمْر بإدراكٍ مزدوج يَقُود الرَّائيّ مِن الغطَاء اللّفظِيّ إِلى المثيراتِ البصريَّة، الأوَّل مَفهُوميّ خالص يختصرُ التّجربةَ ويُقلّص من مَداها في العين، أَمَّا الثَّانيةُ فعابرة فيها ولا تُعمّر طويلا في الذّاكرةِ. لذلك لا نَستحْضِرُ من صورِ العالم إِلا ما تسرّب إلى الوجدانِ في شكلِ “خبرةٍ بصريّةٍ” قابلةٍ للاستحضارِ خارجَ سياقاتِ التّمثيلِ المباشرِ. فانفعالاتُ العينِ كانت دائما أَقوَى من تِلْك التي تُمِدّنا بها باقي المنافذ الحسيّة.
وهذا معناه أنّنا نَستبطِن داخلَنا ما يكفي من الصّورِ التي نَقيس بها حجمَ الفاجعَةِ أو جَلَل المصابِ أو فرحةَ الطّقسِ الاجتماعيّ. وهناك الكثِير من شواهدِ النّفسِ الدالّة على قُدرَة العيْنِ على اسْتحْضار ما لا تراه وفق تمثيلٍ بصريّ لحظيّ، فهي قادرةٌ على حشو المرْئِيّ في الذاكرة بالكثير من الانْفعالات هي ما يُشكّل طَاقَة الصُّورة وقدْرتهَا على تَسرِيب أكثر الانفعالات عنفا واندفاعا أو دعةً إِلى التَّجارب الممثّلة فِيها. فَقد يكون اللّفظيّ قادرًا على التَّحَكُّم في مَضامِين البصَريِّ وتوْجيه دلالاته، إلا أنّ البصَريَّ يمكن أن يَتَحوَّل أيضا، فِي مجَال تمثيل الحدثِ بِأنْواعه، إِلى ضَابِط جوَانِّي يَفرِض على العيْنِ المتفرِّجة نُسخَة واحِدة تتجاوز من حيث الطاقةُ التأثيريّة ما يُمكن أن تقولَه الكلماتُ في الحقيقةِ والاحتمالِ. وذاك مَا يَتَسلَّل إِلى الوجدان: يُقَال اليوْم في مَيْدَان الصّحافة إِنَّ الخبر نَاقِص بدُون وُجُود صُورَة أو صور تُؤكِّده.
إنّ التَّحقُّق البصَريَّ قد يَقود في الحضور إلى التقْليص من الحجْم الدَّلاليِّ للحدث، وقد يُشكِّل سِياجًا لَهُ، وقد يَكُون قِراءة مُسبَقَة وموجَّهة لغايات بعينها (قدرة “التأطير” على التصرّف في ممكنات “الحقل” البصريّ)، وقد يَكُون في حالات كَثِيرَة مُجرَّد هويَّة بَصريّة مُحايدة، الغاية مِنهَا خَلْق حَالَة تَطابُق بَيْن نسقينِ (تطابق الاسْم مع الصُّورة: هذه شجرةٌ). أَمَّا فِي حالاتِ الغياب (عندما لا يحضرُ الممَثّل في الصورة بكلّ عناصِره)، فَإِنّ الأمْر يَتّخِذ مَنْحى آخر. يَتَحوَّل الحـدثُ في هذِه الحالة إِلى كمٍّ دَلالِيّ مُجرَّد يَستعْصِي على الضَّبْط الكُليّ والنّهائيِّ، لِأَنّه يَنفَلِت مِن سُلْطان الذَّاكرة؛ فَهذِه الأخيرة تَقتَضِي تحيُّزًا بصريًّا هُو أَسَاس التَّذَكُّر وهُو أَسَاس مِيكانيزْمات الاسْتحْضار أيضًا، فما يقولُه اللّفظُ لا تَستطيعُ العينُ دائمًا تحويلَه إلى طاقةٍ بصريّةٍ. والحال أنّ الذَّاكرة الإنْسانيَّة كانت دائمًا من طبيعةٍ أيقونيَّة.
جورج فلويد هو مُواطِن أَسوَد مات مُخْتنِقًا تَحْت رُكْبتي شُرْطِي عُنْصُري وَهُو يَصرُخ: إِنِّي أَختَنق (Getty)
ووفق هذه المبادئ وجب النظر إلى ما قدّمته حالتَا تُسونامي في آسيا (2004) وإعْصَار كاترينَا في أميركا (2005): لقد رأى النَّاس مع تسونامي، الذِي ضرب الكثِير مِن الدُّول الآسْيويَّة وخلَّف مِئَات الآلَاف مِن القتْلى، “كلّ شيءٍ”، رأوا هوْل الفاجعةِ والموت والتشرد، وأدركوا مخلّفات الهزَّة الأرْضيَّة فِي البشرِ والطبيعةِ والعمْران. فقد قَدّمَت وكالاتُ الأنباء الرَّسْميَّة والخاصَّة، وقدَّم الهُواة مِن المصوِّرين ومن شُهُود العيَان صورًا من كلّ الطبائع عن هذا الزلزال. لقد رأوْا “رُؤيَة العيْنِ” الماء والْأمْواج العاتيّة وهي تُدمِّر فِي طَريقِها الأخضرَ واليابسَ، رأوْا انجِراف التُّرْبة وانْهيار المنازل ونفُوق الحيوانات، ولكنَّهم رأوْا فِي المقَام الأوَّل أَجسَاد الرِّجَال والنِّساء والأطْفال مُعَلّقَة على الأشْجارِ والأسْطحِ أو مَطمُورةً في الوحلِ أو تطفو فوق المياه. كانوا أمام منْظر بلغ الحُدود القُصوى في “المأساويّ”. وكشفَ في الوقت نفسه عن محدوديّتنا وهشاشةِ وجودِنا في الأرضِ، رغم كلّ ما يقال عن قُدرةِ الإنسانِ على التحكّم في غضبِ الطّبيعةِ وتوجيهِها.
“صورةُ جثّةٍ واحدةٍ معلّقة على أغصانِ شجرةِ، أو رأس يُطلّ من بين الأوحالِ، يمكن أن تعبّر عن كلّ ما تجاهلته الكلمات أو لم تكن قادرةً على وصفِه”
وتلْك الصُّور هي التي اسْتوْطنتْ الذَّاكرة وكانتْ مَصدَر كُلِّ الانْفعالات اللَّاحقة. لَم يَعُد مَا جرى مُجرَّد “قِصَّة” غرقٍ دوَّنتْهَا الكلمات الواصفةُ، بل أَصبَح “حدثًا” في التّاريخِ وثّقته الصُّورة فِي المقَام الأَول، لقد استَثار في النّفوسِ جُزْءًا مِن خزّانٍ بصريٍّ استمدّت منه العيْن كلّ ما هُو قَابِل للاسْتحْضار فِي الذَّاكرة. لقد كان الموْتُ فِي الصورة “حَقيقِيّا”، وكانتْ الأرْقام قَابِلة لِلْعدِّ عِيانًا أيضًا. إِنَّها صُوَر “إِخْباريَّة” موجّهةٌ بالتأكيد إلى التّصديقِ على مَا تَقولُه اللّغَة عن الحدثِ الممثّل. ولكنّهَا كَانَت أيْضًا شهادة حيّة على شَرْطٍ حَياتِيّ يشكو من خصاصٍ في التمدّن والتحضّر. وكانت في الوقت نفسهِ إحالة على الكثِير مِمَّا قِيل عن عَقائِد هؤلاء الّذين ابتلعهم البحرُ أو ماتوا تحت أنقاض المباني.
ومن خلال هذه الصّور أَيْضا تسرّبت إلى العين مَجمُوعةٌ كبيرة مِن الأحاسيس: كَانَت هُنَاك الشَّفَقةُ والرَّحْمةُ والأسى، وكَان هُنَاك التَّقَزُّز والازدِراء وربمَا التَّشَفِّي أَيْضا، فقد قِيل إِنَّ اللَّه عَاقَب هؤلاء لأنَّهم تَركُوا دِينهم وانْغمسوا فِي الملذَّات الحسِّيَّة (الدِّين المقْصود هُنَا فِي الغالب هُو الإسْلام، فأغْلب الدُّول التِي ضربها هذَا الزِّلْزال كَانَت مِن آسْيَا المسْلمة). لقد كَانَت تِلْك الصُّور مِن الفظاعةِ والمأْساويَّة إِلى الحَدّ الذِي رفض فِيه النَّاس أن تَكُون مُجرَّد تَصوِير لِمَا يَحدُث فِي الطَّبيعة وحْدهَا. فما وقع لم يكن ظَاهِرة طَبيعِيّة حَدثَت وستحْدثُ في المسْتقْبل، بل هُو عِقَاب إِلهيّ لِعباد تنكّروا لتعاليمه وابْتعدوا عن سبيلهِ، فغضب الله يُرى في غضبِ الطبيعةِ، فذاك من خلقه ودليلٌ على عظمتِه. إنّ الأمرَ لا يختلفُ كثيرًا عَمَّا كان يَحدُث مع آلهة اليونانِ عندما كانت تَغضبُ من رعاياها. لقد أغرقَ بوسيدون (إله البحار) أثينا وأهلَها في المياهِ المالحةِ لأنّها تنكّرت لذكوريّتَه وانحازتْ للأنوثةِ عند للنّساء ضدّا على قيمِ الرّجالِ.
وهذا هو التّفاوت بين أرقامٍ “صامتةٍ” وبين صورٍ “تعُجّ” بالموت. لم يكنْ للأرقامِ التي قدّمتها وكالاتُ الأنباء أيّ قيمةٍ في حالةِ تسونامي، فقليلٌ من الجثَثِ من بين مئات الآلافِ من القتلى، كان كافيّا لاستِثارةِ كلّ الانفعالاتِ الممكنةِ. فصورةُ جثّةٍ واحدةٍ معلّقة على أغصانِ شجرةِ، أو رأس يُطلّ من بين الأوحالِ، أو بقايا أثاثٍ تعبَثُ بها الأمواجُ، يمكن أن تعبّر عن كلّ ما تجاهلته الكلمات أو لم تنتَبه إليه أو لم تكن قادرةً على وصفِه. إنّ العين قادرةٌ على تعميمِ هذه الصّورِ وجعلها “عيّناتٍ” دالّةً على مأساةٍ لا يُمكن أنْ تُحيطَ بها كلّ الأرقامِ الممكنةِ. فالصّورة لا تصِفُ ولا تُحصي عددَ الأمواتِ، إنّها تكتفي بالشّهادة على موتٍ يقع أمام أنظار العالمِ.
صورة تاريخيّة من الولايات المتحدة الأميركية تندد بحرب فيتنام عام 1973 (Getty)
وتلك هي طاقةُ “النّسخةِ” في الصّورةِ. إنّها ليست إحالةً على الواحدِ المفردِ: هذا المصوَّر هنا والآن. إنّها النّموذج المتحقق الدالّ على الكثرةِ في الذّاكرةِ البصريّةِ. فالأرقامُ لا تَستوقِف النّاس، أو لا تَفعلُ ذلك إِلَّا عَرَضًا. ذلك أنّ الـجثَّة الواحدةَ فِي أَعينِهم تكون دَالَّة على صُّور تُمثِّل لـكل جثثِ الذين قتلَتهم الحُروب والزَّلازل أو ماتوا بالمجاعاتِ والأوبئةِ. إنّها مجموعُ الصورِ التي تؤكّد هشاشةَ شرْطِ الإنسانِ في الأرضِ، أي على هَشاشَتهم. إنّ “الرّقمَ” يصفُ من الخارج، فالذّات في هذه الحالةِ لا تستَوعب في الوجدان معادلاتِ الأرقام، فالموت رقم فقط لا شيء في حقيقةِ الكلماتِ يمكنُ أن يُخبر عن الهولِ فيها. ولكنّها في الصّورةِ تُصبحُ جزءًا من “المأساويّ” (يتَحسّسُ المرءُ جسَده حين يَرى جسدًا في الصّورةِ يتحلّلُ أو في طورً التحلّل).
لقد قرأ الكثيرُ من النّاسِ في الجرائدِ خبرَ موتِ الطِّفْل السُّوريِّ إيلان غرقًا فِي البحْرِ. ولكنَّهم لَم يسْتحْضروا صُورَة الطُّفولة فِيه، إِلَّا عِنْدمَا رأوْا الأمْواج تَلعَب بِجسده الصّغِير على أحد شَواطِئ اليونان. لَقد كَانَت الطُّفولة فِي اللغَة مُجرَّد دالّة على رقم فقط، إنّها مَرْحَلة عُمْرِية لا تَدُوم طويلًا، أو كَانَت نقيضًا للكهولةِ عندهم، أَمَّا فِي الصُّورة فقد كانت تمثيلا لشرط البراءةِ في الطفولة. لا تَتَحدَّث الصُّورة في حالتنا عن الأطْفال الَّذين مَاتُوا أو سيموتون، إِنَّها تَعرضُ لِمَوت لم تَعهدِه العيْن، أو كان مُؤْلِما لِحدِّ الفجيعة. إِنَّ الطُّفولة في الصُورَة لا تُعادلهَا الطُّفولة فِي اللغَة، إِنَّها لا تُحَاكِي الطُّفولة فِي السِّنِّ ولا تُحاكيها في الهيئةِ، بَلْ تَستحْضِر حيَاةً اغتُصبت وهي فِي طور التكوّن. ربَّمَا لَم يَنتَبِه النَّاس للطّفل حين كان حيًّا، لأَنه كان جُزْءا مِن بَداهَة الحيَاة نفْسهَا، ولكنَّه ذكّرهم ميِّتًا بِكلِّ مآسي الهجْرة والْهروب من الحروبِ والجوع والجهل نَحْو بِلَاد لا “يُظلَم فِيهَا أحد”.
وتِلْك كَانَت أيْضًا حَالَة الطِّفْل رَيان فِي المغْرِب (الطِّفْل الذِي سقط فِي بِئْر، وشدّت “صورُ” إنقاذِه أنفاسَ العالم أجمع). فَقد شَاهَد النّاس مَوتَه في مَا يُشْبِه حالات “تَشهِي الإثْم”، تِلْك الرَّغْبة فِي مُتَابعَة مَشهَد مَأْسَاوي سينْتَهي بِالـمَوْتِ أو بانفراجٍ غير متوقّع. لقد كانت تلك الصورُ تعبّرُ عن الرَّغْبة فِي مُتَابعَة مَشهَد حيٍّ لِطفْل يَمُوت بِالـمباشر. يتعلق الأمرُ بــ”متعة” تَتَحقَّق فِي مَا يُشْبِه “الألَم الممتع”، أو هِي التشَهِي الذِي يُؤجِّل الـمُتعة لِكيْ تُصْبِح السَّيْرورة إِليْهَا هي مصدرُ الانفعال في النّفس: يُقَال إِنَّ القائمين على الإنْقاذ كَانُوا على عِلْم بِموْته لحظةَ سقوطه فِي البئْرِ، ولكنَّهم أقْنعوا النَّاس بِالصُّورة أنَّ الأمْر يتعلَّق بسعْي صادقٍ لإخراجه من قاع البئرِ. وهو قد يدلّ على أنّ مَا كَانَت تَعرضِه القنواتُ الفضائيّةِ لَيسَت صُوَرا لِطفْل يموت، بل هُو عَظمَةُ إنسانيتُها، فهي يمكن أن تَفعَل كُلَّ شَيْء مِن أَجْل إِنقَاذ طِفْلٍ نكرةٍ مِن بَادِية مُهملَة. إنّ السلطةَ لا تَنسى أبدا أنّها سُلطة.
“إِنَّ الجسد الأميركيَّ يَجِب أَلَّا يُرى فِي حالات ضَعفِه أو وَهنِه، ولا يَجِب أن تُلوّثَه العيْن المبْصرة بِمَا يُمْكِن أن تَضعَ فِيه مِن الشَّفَقة والرَّحْمة”
وخلاف ذَلِك مَا حدث مع إِعصَار كاترينَا الذِي ضرب أميركا. لقد كان هُنَاك رَابِطٌ من طبيعة أخرى بَيْن الحدثِ وما شاهدَه النَّاس حقًّا. لَقد رأوْا كُلَّ شيْء، رأوْا البحْر الهائج والأمْواج الضَّخْمة والرِّياح العاتية وهي تَقتَلِع الأشْجار من جذورها وتدمِّر المنازل والحقول، ورأوْا الدَّمَار فِي كُلِّ مكان. ولكنَّهم سَمعُوا أو قَرؤوا أيْضًا عن سُقُوط الكثير من الضّحايا مِن الرِّجَال والنِّساء والْأطْفال، ولكنَّهم لَم يروْا جُثَّة واحدَةً. لَم يروْا مَوْتَى، ولم يروْا أجْسادًا مُمَزّقَة أو مُعَلقَة فِي الأشْجار أو مُلْقاة فِي الطَّريق.
لَقد كان الموْتُ فِي الأرْقام وحْدهَا، كان موتًا افْتراضيًّا فقطْ. لَقد حرّمت الصّورة على العيْنِ تَجسِيد مَا تَقولُه الأرْقام، ففَشلَت فِي تَجسِيد المأْساة فِي صُورَة تَكُون مُعادِلا لِهَول الكلمات. لَقد ظَلَّت الأرْقام في غِيَاب التَّمْثيل البصريِّ، صَامِتة فِي الذَّاكرة، وفقدتْ بِذَلك قِيمتها، فلم يكُن هُنَاك في الصُوَر ما يدفع النّاس إلى الاستقرار على حَقِيقَة الموْتِ فِي الذَّاكرة: “يُقال” إنّ هناك قتلى كثيرين، ولكنْ لا أحدَ منهم رأى جثّة واحدةً. “فنحْن نُبصِر فِي عَالَم ونتكَلَّم في عالِم آخر” (ريجيس دوبريه).
لقد كان هذَا الغيَاب دالًّا على قَاعِدة مَركزِية فِي آليَّات الإعْلام الأميركيِّ: إِنَّ الجسد الأميركيَّ يَجِب أَلَّا يُرى فِي حالات ضَعفِه أو وَهنِه أو تَفسخِه، ولا يَجِب أن “تُلوّثَه” العيْن المبْصرة بِمَا يُمْكِن أن تَضعَ فِيه مِن الشَّفَقة والرَّحْمة أو التَّشفِّي. إِنَّ عَرْضَه على العيْنِ ميِّتًا أو مُمَزّقا أو مُلَطّخا بِالدماء أو الوَحل ليس انتِقاصا من كرامة الميِّتِ، بل هو في الـمقامِ الأولِ مساسٌ بِقدسية الجسد الأميركيِّ، ونيْلٌ مِن سُمعَةِ أميركا. لِذَلك وجب عدم تصْويره. بِعبارة أُخْرى، يُعدّ عَرضُه ميِّتًا على العيْنِ تعْبيرًا عن ضَعْف الدَّوْلة وضعْف مُؤسَّساتهَا وعجزها عن مُوَاجهَة الطَّبيعة.
لقد كان الموْتُ فِي هذِه الحالة موْتًا مُجرَّدا، فلَا قِيمة لِلْأرْقام فِي غِيَاب جُثَث تُشخِّص الموْتَ الفعْليَّ. لن تَحتَفِظ الذَّاكرة البصريَّة بِالأرْقام، كمَا احْتفَظتْ قديمًا بِصورة “فَتَاة الوردة”[1] الشَّهيرة. فتاةٌ بلا حوْل ولا قوّة سوى وردَةٍ في يديها تَقفُ فِي وَجْه جُنود مدجّجين بالسّلاح يمنعون النّاس من التظاهر فِي شَوارِع أميركا مناهضة للحرْب القذرة التي كانت تخوضها أميركا في نهاية الستينيات من القرن الماضي فِي فِيتْنام. لقد قالت هذه الصورةُ كلّ شيءٍ عن حربٍ كانت رحاها تدور على بعد الآلاف من الكيلومترات عن أميركا. وهو المبدأ ذاتُه الذي يَتحكّم في ما أطلقتْ عليه أميركا “الحرب النظيفة”، وهي حربٌ تخاضُ بقنابلَ “ذكيّة” لا تقتلُ إلا الأشْرار في العراقِ وفلسطين وفي أماكن أخرى: يُمكن أنْ تموتَ أو تُقتل خارجَ العينِ التي تَرى. وهي طَرِيقَة لِلتَّطْبيع مع الموْتِ، يُقَال إِنَّ “القتْل فِي الحرْب لَيْس قتْلًا”.
والموتُ المباشرُ في الصّورة هو أيضا ما دفَع النّاس في أميركا وأجزاءٍ أخرى في العالمِ للخروجِ ضدّ التّمييزِ العنصريّ. وذاك ما تُمثّله حَادِثة مَوْتِ جُورْج فَلوُيد في أميركا. فقد قَتلَت الشُّرْطة أَمَام أَعيُن الكاميرات مُواطِنًا أَسوَد مات مُخْتنِقًا تَحْت رُكْبتي شُرْطِي يَكرَه السُّود. فمَا ألْهب مشاعرَ النَّاس ودفعهم ِإلى الخُروج إِلى الشَّوارع لَيْس خبرًا مَكتُوبا فِي الجرائد اليوْميَّة يَتَحدَّث عن مَوْت مُوَاطِن أميركي أَسوَد تَحْت أَقدَام شُرْطِي عُنْصُري، فالشّرطةُ تقتلُ الكثيرَ منهم يوميًا، لَقد خَرجُوا إِلى الشَّوارع لِأنَّهم رأوْا الموْتُ “عِيانا”. إِنَّنا لا نرى القتل الفعْليّ فحسب، بل نَستحْضِر أيضًا كُلَّ صُورِهِ الممْكنة. وهي صور ليست مُستقَاة من الفعل المباشر، بل مستمدةٌ مِن خَزَّان يَشتَمِل على النّماذِج المتعددة لِلْأفْعال الإنْسانيَّة، القبِيح منهَا والْجميل، إنّ ذلك يجْعلهَا تَتَحقَّق وَفْق طَبِيعَة كُلِّ لَحْظة.
لَقد كان الأمرُ هنا أيضا يتعلّقُ بموتٍ بِالـمباشر، كمَا يُمْكِن لِلعيْنِ أن تَرَاه وَهُو يَتَسلَّل بطيئًا إِلى الجسد المقْموع وهُو يَصرُخ “إِنِّي أَختَنق”[2]. لَم تَكُن الصُّورة جُزْءًا مِن خبرٍ، ولم تَكُن مُجرَّد تَأكِيد لِحَدث أَيْضا، لم تَعد هنا معادلًا لما يُمكن أن يقوله لفظٌ يصفُ ما يمكن أن يكونَ قد وقع من خارجه، لقد أصبحتْ إدانةً للعنفِ والعنصريّة والشّطط في استعمالِ السّلطة في كلّ مكان، إنّ الصورةَ تنفصل هنا عن الممثّلِ فيها . وذاك ما شكّل “الحدثَ” الذِي أخرج النّاس إلى الشوارع. كان من الممكِن أن يظلّ هذا الموتُ مجردًا لو لم تلتقطه العينُ في الصّورة.
وهُو مَا يَحدُث اليوْم فِي مَا يَنشُر مِن الصُّور فِي شَبَكات التَّواصل الاجْتماعيِّ، ولا سيما حول حرب الإبادة في غزة.
لَقد كان الميْل إِلى الفضيحةِ دائمًا حاضرًا فِي الأذْهان المتخلِّفة، كما كان التَّزْوير حاضرًا فِي حَيَاة النَّاس وسلوكهمْ، وكمَا كَانَت الأخْبار المزيَّفة وغَيرهَا مِن الأكاذيب مُنتشرَة أَيْضًا، ما لم يكنْ موجودًا حقّا هو الصّور التي يُمكن أن تصدّق على كلّ ذلك. لِذَلك لم يكُن النَّاس يُعيرون الأمْر كبير اهْتمام، ولم يكن للفضيحةِ ما لها اليوم من قدرةٍ على التّشكيكِ في أخلاقهم وقيمهم. إِنَّ الطَّارئ فِي أَيامنا هُو الصُّورة، أيْ القُدرةُ على “إِثبَاتِ” الخبرِ والفَضيحةِ والحقائقِ المزيّفة. فالنّاس يُصدّقون الصورةَ لأنّها تقدّم لهم “حقيقةً” تراها العينُ.
لقد كان ما يتمّ التمثيلُ له في الذهن عبر اللّغةِ هو ما يُمثّل الحقيقةَ، فلا ثقةَ في المنافذِ الحسيّةِ. ويبدو أنَّ “حضارتنَا قد تكون هي أَوَّل حَضارَة فِي التَّاريخ تُصدِّق أعْينها، وهي أَوَّل ما سَاوَى بَيْن “المرْئِي” و”الواقع” و”الحقيقةِ”، فقد كَانَت الحضارات القديمةُ، بِمَا فِيهَا حضارتنَا إِلى الأمْس القريب، تَعتَقِد أنَّ الصُّورة تمْنعنَا مِن الرُّؤْية، وها هِي اليوم تُصْبِح بُرْهانًا”[3] على صدْقِ كلّ الحقائق التي تحملُها. فَيكفِي أن يُلْقِي في أيّامِنا هاته هاوٍ صُورَة فِي اليوتيوب لِتتحَوَّل إِلى حَقِيقَة يمكنُ أنْ يُصَدّقهَا جميع النَّاس.
هوامش:
[1] – la fille à la fleur
[2] – كان الشرطي يضع على رقبته ركبتاه وكان فلويد يصرخ: I can’t breathe
[3] -Regis Debray: Vie et mort de l image, éd Gallimard,1992,p.499
شارك هذا المقال