ملخص
يواصل بوتين حربه بلا عواقب تُذكر من إدارة ترمب أو أوروبا، مستنداً إلى مليارات يحققها من صادرات الطاقة. وبينما تتحدث واشنطن عن السلام وتلوح بالعقوبات، تواصل الدول الغربية شراء الوقود الروسي عبر ثغرات قانونية تدر على الكرملين عائدات يومية ضخمة.
البيت الأبيض يكتفي بالتلويح والوعيد، والبريطانيون وغيرهم من الأوروبيين، يقفون إلى جانب أوكرانيا، بينما تعلق تركيا آمالاً كبيرة. إلا أن رد فعل الكرملين حين يجتمع أولئك جميعاً في إسطنبول ضمن محادثات وقف إطلاق نار مع روسيا، ستكون: “وماذا في ذلك؟”.
لا يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أية عواقب جدية من دونالد ترمب أو من أوروبا بسبب استمرار حربه على أوكرانيا، بل إن أحدث الدراسات تظهر أن روسيا تجني مليارات الدولارات من صادرات الغاز إلى أوروبا، وتستخدم تلك العائدات في تمويل حربها داخل أوروبا.
أما أقسى العقوبات التي هدد بها ترمب، وكررها مبعوثوه، فهي أن الولايات المتحدة ستتخلى عن أي انتظام في الملف الروسي – الأوكراني إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق نار لمدة 30 يوماً، ناهيك بأي عملية سلام فعلية.
وفوق ذلك كرر المبعوث الأميركي الرئيس إلى أوكرانيا كيث كيلوغ ما أصبح بمثابة لازمة في البيت الأبيض، وتتقاطع أيضاً مع مطلب للكرملين بأن أوكرانيا لن تنضم إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) أبداً.
لدى إدارة ترمب عديد من الوسائل التي يمكنها استخدامها لدفع روسيا نحو وقف إطلاق نار، إذ بوسعها التهديد بتعزيز الدعم العسكري والاستخباراتي لأوكرانيا، وبدعم طموحات أوكرانيا في الانضمام إلى “الناتو”، كما بوسعها تأمين قوات عسكرية لضمان أمن أوكرانيا مستقبلاً.
2.jpg
برج الأعمال “لاختا سنتر” في سان بطرسبورغ، روسيا، المقر الرئيس لشركة “غازبروم” التي تحتكر الغاز الروسي (أ ب)
غير أن إدارة ترمب وعلى نحو غير مفهوم تخلت عن كل واحدة من هذه الوسائل. لذا، بالنتيجة، فإن اجتماع الدول الـ32 الأعضاء في حلف “الناتو” بأواخر يونيو (حزيران) ينبغي أن يقرر دور هذا الحلف إزاء انحياز أميركا لمعسكر الكرملين.
لكن هناك جرعة كبيرة من التناقض والتفكير المزدوج والنفاق في هذا المشهد. فالقادة الأوروبيون والاتحاد الأوروبي يصرحون بأنهم الأكثر عرضة للخطر من بوتين، ومع ذلك ينفقون مبالغ طائلة من أموالهم على شراء الغاز الروسي، الذي يستخدم في تمويل الحرب نفسها التي يصفها هؤلاء القادة بأنها تهديد وجودي لأوروبا.
وبحسب مركز “بحوث الطاقة والهواء النظيف” CREA كان الاتحاد الأوروبي رابع أكبر مُشترٍ للوقود الأحفوري الروسي في شهر ديسمبر (كانون الأول)، حيث شكلت وارداته 17 في المئة من إجمالي واردات الدول الخمس الأولى (بقيمة 2.5 مليار يورو). ويكون الجزء الأكبر من مشتريات الاتحاد من الغاز الطبيعي المسال (بنسبة 39 في المئة)، يليه الغاز المنقول عبر الأنابيب (38 في المئة).
في الإطار عينه أظهرت دراسة أجرتها “بي بي سي” استخدمت فيها أرقام مركز “كريا” ومعطيات من “معهد كيل للاقتصاد العالمي” Kiel Institute for the World Economy، الذي يتابع مسار المساعدات إلى أوكرانيا أن روسيا جنت 939 مليار دولار (697 مليار جنيه استرليني) من صادرات الوقود الأحفوري منذ اجتياحها الشامل لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. في المقابل حصلت أوكرانيا على 309 مليارات دولار (230 مليار جنيه استرليني) على هيئة مساعدات أجنبية خلال الفترة عينها.
علاوة على ذلك، ازدادت إيرادات الضرائب المتاحة للكرملين بفضل ثغرة قانونية تتيح لدول، من بينها المملكة المتحدة وعدد من أعضاء الاتحاد الأوروبي، فرضت عقوبات اقتصادية على روسيا، أن تستورد منتجات نفطية روسية مكررة من بلدان لم تفرض تلك العقوبات.
3.jpg
هدد دونالد ترمب مراراً بالانسحاب من جهود التوصل إلى سلام في أوكرانيا (أ ف ب/ غيتي)
كذلك أفاد تقرير صادر عن مركز “بحوث الطاقة والهواء النظيف” بأن “الدول التي فرضت عقوبات على روسيا استوردت عام 2024 منتجات نفطية بقيمة 15.8 مليار يورو من 6 مصاف في الهند وتركيا، يقدر أن 6.6 مليار يورو منها قد تم تكريرها من نفط خام روسي. وتشير التقديرات إلى أن هذه المصافي استخدمت ما قيمته 6.1 مليار يورو من النفط الروسي لإنتاج منتجات موجهة إلى الدول التي فرضت العقوبات… كما أن الواردات من هذه المصافي التي استخدمت الخام الروسي ولدت إيرادات ضريبية للكرملين تقدر بـ3.9 مليار يورو، تستخدم في تمويل الحرب الوحشية التي تشنها روسيا على أوكرانيا”.
ويضيف التقرير أن “أكثر من خمس صادرات هذه المصافي كانت موجهة إلى الاتحاد الأوروبي عام 2024، وهي الفترة التي أصبحت فيها الهند أكبر مصدر للمنتجات النفطية إلى التكتل الأوروبي”.
من جهته، يضع الاتحاد الأوروبي خطة للتخلص التدريجي من الاعتماد على الغاز الروسي بحلول عام 2027، وقد نجح في تقليص استهلاكه من الغاز الروسي من 45 في المئة عام 2021 إلى نحو 19 في المئة حالياً.
لكن بعض الدول الأعضاء لا تزال تستورد الغاز الروسي عبر الأنابيب، مثل المجر وسلوفاكيا، اللتين ينظر إليهما على أنهما أكثر تعاطفاً مع موسكو.
ومع تدفق الغاز من روسيا، يستمر تدفق الأموال النقدية إليها.
ومن المعلوم أن روسيا شنت خلال الأسابيع الماضية أعنف حملة من الضربات الجوية ضد أوكرانيا منذ بداية الحرب، كما بدأت تحشد قواتها على الحدود قرب مدينة خاركيف، ثاني كبرى المدن الأوكرانية. وعلى امتداد خط الجبهة الذي يبلغ طوله 1000 ميل، شنت القوات الروسية هجمات متجددة وبعنف على محيط مدينة كوستيانتينيفكا، وأظهرت سرعة في التكيف مع حرب الطائرات المسيرة.
مشروع “نورد ستريم 2” إلى الواجهة بتحركات سرية لحليف بوتين
ما كان كل ذلك ليكون ممكناً من دون العائدات الهائلة التي يجنيها بوتين من النفط والغاز. وتقدر بيانات مركز CREA أن روسيا تحقق إيرادات يومية تبلغ 652 مليون يورو من صادرات الوقود الأحفوري، وتشمل هذه الإيرادات مبيعات قانونية وأخرى ناتجة من التهريب والتحايل على سقف السعر المفروض على النفط الروسي، والمحدد عند 60 دولاراً للبرميل.
يريد الأوروبيون تخفيض هذا “السقف” ليبلغ سعر الـ50 دولاراً، لكن إدارة ترمب تعارض ذلك.
وهكذا تبدو الولايات المتحدة غارقة في شعارات دبلوماسية محرجة.
فقد قال نائب السفير الأميركي بالإنابة جون كيلي خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي: “نريد العمل مع روسيا، بما في ذلك في مبادرة السلام والحزمة الاقتصادية. لا يوجد حل عسكري لهذا الصراع”. وأضاف “الاتفاق المطروح حالياً هو أفضل نتيجة ممكنة لروسيا. وإذا اتخذت روسيا القرار الخاطئ بمواصلة هذه الحرب الكارثية، فستضطر الولايات المتحدة إلى النظر في التراجع عن جهودها التفاوضية لإنهاء هذا النزاع”، مشيراً إلى أن واشنطن قد تفرض أيضاً مزيداً من العقوبات على روسيا”.
لدى الولايات المتحدة تبادلات تجارية محدودة جداً مع روسيا. لذا فإن العقوبات الجديدة لا تعني شيئاً يذكر. وحتى إذا قرر ترمب الانسحاب من العملية الدبلوماسية، فمن الصعب تصور أن ذلك سيقلق بوتين.
وحدها الجهود الدولية الهادفة إلى خنق صادرات النفط والغاز الروسية من شأنها أن تشل جهود بوتين الحربية، لكن المشكلة هنا تتمثل بأن أكبر أربعة مستوردين للوقود الأحفوري الروسي – وهي الصين والهند وتركيا والاتحاد الأوروبي – ليسوا مستعدين لدفع الثمن كي يمنحوا فرصة للسلام.