لا يتوقف رجب طيب أردوغان عن انتقاد بنيامين نتنياهو، ولا يتوانى عن وصفه بمجرم الحرب الذي يجب محاكمته، حيث أوعز للقضاء التركي بتقديم دعاوى ضده أمام المحكمة الجنائية الدولية على خلفية الحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة، وما رافق ذلك من أعمال قتل وتهجير وتدمير للبنية التحتية، لكن ما يقوم به نتنياهو سبقه في ذلك أردوغان، عندما شرع الباب لطائراته ودباباته بقصف مناطق واسعة في شمال شرقي سوريا وكردستان العراق، حيث لا تتوقف مسيراته عن قتل المدنيين وتدمير منشآت البنية التحتية، لاسيما محطات الطاقة من غاز ونفط وصولاً إلى المستشفيات والمدارس، بحجة مكافحة الإرهاب، ولعل الفارق بينه ونتنياهو هنا هو بالدرجات، وبالضوء الأخضر الذي تمنحه الولايات المتحدة، وموقع بلاده في خريطة المصالح والعلاقات الدولية. وعليه، ما الذي يمنعه من الذهاب بعيداً لأن يكون نسخة عن نتنياهو؟ من دون شك، يكمن الفارق في السقف الدولي المتاح، ومدى تضارب ذلك مع المصالح الدولية، وتحديداً الأميركية والروسية في سوريا والمنطقة عموماً، فهو لا يتوقف عن التهديد بتدمير ما يسميه بالممر الإرهابي في إشارة إلى الكيانية الكردية الناشئة في هذه المناطق، وهذا ما أعلنه صراحة في خطابه يوم الأربعاء الماضي عقب اجتماع لحكومته، ولعله يعتقد أن غبار الحرب في غزة قد تمنحه فرصة لتكرار ما قام به في عفرين المحتلة ومناطق أخرى، حيث حدد “تل رفعت” بالإسم في خطابه المذكور.

في تطلعه لأن يكون نتنياهو، هل لاحظتم أن أردوغان منذ فترة ينتقد نتنياهو فقط ويتجاهل إسرائيل؟! بالتأكيد الأمر ليس سهواً، فهو يعتقد أن نتنياهو أنتهى سياسياً، وهو اعتقاد ربما صحيح بعد كل ما حصل على جبهة إسرائيل – حماس، لكن لماذا يتصرف الرئيس التركي على هذا النحو؟ في الواقع، إن حقائق التجارة مع إسرائيل تفضح كل ذلك؛ فالتقارير التركية تقول إن 350 سفينة حملت البضائع من تركيا إلى إسرائيل خلال أقل من شهرين على حرب غزة، وبطل تجارة معظم هذه السفن هو نجله البيراقدار، كما أن معظم الوقود الذي يشغّل الدبابات الإسرائيلية التي تدك غزة فوق رأس أهلها، يأتي من تركيا بعد أن يتم نقله من حليفتها آذربيجان إليها، وهو ما يكشف زيف خطاب أردوغان، وإزدواجية حديثه عن مناصرة القضية الفلسطينية في ظل تمسكه الصارم بنهج المصالح مع إسرائيل، رغم خطابه العالي النبرة ضدها، دون اتخاذ خطوة واحدة بهذا الخصوص حتى الآن، مع أن حرباً كلامية اشتعلت بين الجانبين بعد تهديد إسرائيل بإغتيال قادة حماس في الخارج، بما في ذلك المقيمين في تركيا، ولعل هذه المرة الأولى التي قد نشهد فيها معركة استخباراتية علنية بين الجانبين بعد عقود من التعاون والاتفاقات الأمنية السرية والعلنية بينهما في المجال الاستخباراتي.

وفي تطلعه لأن يكون نتنياهو، يشاغب أردوغان على حدود الضفاف الأميركية الممتدة في المنطقة، ويدخل معها في تصعيدٍ حول حركة حماس، فخلافاً للتوصيف الأميركي والأوروبي والإسرائيلي الذي يسم الحركة بالإرهاب، يصنّفها بأنها “حركة تحرر وليست منظمة إرهابية”، فتأتيه رسالة استثنائية من البيت الأبيض، على شكل مؤتمر صحفي من قلب تركيا، يعقده نائب وزير المالية لشؤون الإرهاب والمخابرات، بريان نلسون، ليقول لأردغان عليك أن تجفّف المنابع المالية لحماس في تركيا بعد أن منحتها الأخيرة شركات عقارية ومالية وأخرى أمنية وعسكرية عبر شركة (سدات) التركية التي باتت تقارن بفاغنر الروسية وبلاك ووتر الأميركية. في رسالة واضحة لأردوغان، مفادها: قطع العلاقة مع حماس. لكن أردوغان يمضي في أوراقه انطلاقاً من مقولة إن مصالحنا هي التي تحدّد سياستنا الخارجية، وهو هنا يسارع إلى المشاركة في القمم العربية والإسلامية والخليجية التي تعقد على وقع يوميات حرب غزة بحثاً عن غطاء عربي وإسلامي يقوّي من موقفه إزاء الإدارة الأميركية التي تتنظر موافقة تركيا النهائية على ضم السويد إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، واصطفافها إلى جانب الحلف في الحرب الروسية – الأوكرانية، وهي أوراق يراهن عليها  أردوغان في نيل ما يريده من الإدارة الأميركية إزاء شمال شرقي سوريا، وكي يكون نتنياهو هذه المنطقة بضوء أخضر أمريكي رغم الرفض الأمريكي المعلن لهذا المسعى الأردوغاني الذي لا يتوقف منذ سنوات.

من دون شك، أن أردوغان يعيش في جمجمة نتنياهو، حيث تتشابه الأيديولوجية المغطاة بلبوس الدين، ويتشابه منطق أوهام القوة في القضاء على الأخر المختلف، والإصرار على حرمانه من حقوقه التاريخية والطبيعية في الحياة الكريمة.