حزب الله هُزم في لبنان، والنظام السوري سقط في دمشق، والقتال متواصل في غزة. ثمة مصلحة إسرائيلية في عدم اكتمال المشهد. في لبنان نبحث عن حلول لسلاح حزب الله، وفي سوريا السلطة الانتقالية قطعت أشواطاً لمرحلة ما بعد بشار الأسد. ما بعد حماس بالنسبة الى إسرائيل غير ناضجٍ، ذاك أن الخطة تقضي بنقل السكان. إلى أين، وبمساعدة من؟ هذا ما لم ينضج بعد.
هل إعلان الهزيمة أفدح من مواصلة القتال في غزة؟ لا معنى لمواصلة القتال إلا إذا كان ثمن الهزيمة أكبر من الأثمان التي يدفعها أهل غزة منذ ما يقارب الثمانية عشر شهراً.
ثم لنذهب بالتفكير أبعد قليلاً، بما أننا نتحدث عن أهل غزة، وليس عن حركة حماس، ولنفترض أن القتال سيعقبه نصر، فما هي حصة أهل غزة من هذا “النصر”؟ لا شيء!
قتل كل قادة الصف الأول في حماس، وعشرات الآلاف من المقاتلين. ولو انتهت الحرب اليوم من دون “هزيمة رسمية” وهو أمر مستبعد، فإن الهزيمة الواقعية قد حصلت. إذاً، ما تقاتل من أجله حماس لم يعد يستحق هذه التضحيات، وإذا أضفنا إليه أن الحركة بعد انتهاء الحرب ستكون في العراء في ظل انحسار نفوذ إيران في الإقليم، فإن الحكمة تقضي بمباشرة البحث عن مخرج غير القتال.
ربما على “انهزاميّ” مثل كاتب هذه السطور أن يتحمّل تبعات ما يقوله، على رغم أن سهام التخوين لا توازي شيئاً من الآلام التي يتكبدها يومياً هؤلاء الناس الهائمون على وجوههم هرباً من طائرات تطاردهم، أو بحثاً عن طردٍ غذائي يسدون به جوع أطفالهم بعدما داهمتهم المجاعة.
والحال أن إسرائيل لا تريد لـ”نصرها” أن يكتمل، تماماً مثلما أن حماس لا تريد لهزيمتها أن تنعقد. لا مصلحة لأحد بالنصر أو بالهزيمة، إلا سكان القطاع، وهؤلاء لا حول لهم ولا قوة. إعلان الهزيمة سيعني انتهاء القتال، ما سيأخذنا إلى ما بعده. أي إلى البحث بمستقبل من تبقى على قيد الحياة من أهل غزة. إسرائيل غير مستعدة للبحث في هذه القضية. فمشروعها للقطاع لا يشمل بقاء الناس فيه، وحتى الآن لم تنضج ظروف الترحيل، ووجهته. هذه هي القصة الحقيقية لمواصلة القتال. أما حماس، فإعلان الهزيمة يعني نهاية مشروعها في القطاع، لكن أيضاً بداية انتهاء مشروع الإخوان المسلمين في أكثر من مكان في هذا المشرق البائس. ثم إن “النصر” هو جوهر العلاقة بين الإسلاميين وبين جمهورهم. لا تستقيم هذه العلاقة من دونه. ودعوة حماس للخروج من غزة، هي دعوة لنوع من التقاعد، إلا أنه تقاعد غير مبكر، ذاك أنه أدخلنا في ما لم نكن قد استعدينا له من خيارات جهنّمية.
إقرأوا أيضاً:
الكفن يدخل غزة قبل الطحين!
النزوح في غزة… لعبة الشطرنج الإسرائيلية
القتال في غزة بعد 18 شهراً من “7 أكتوبر” وبعد ما يقارب الـ54 ألف قتيل وأكثر من ضعفهم من الجرحى، والدمار شبه الكامل للمدن والمخيمات، يدفع الى التساؤل عن هدف مواصلته في ضوء هذه الأثمان. إسرائيل لا تريد هزيمة كاملة لحماس، فهذا يعني وقف القتال والبحث عن شريك فلسطيني. وحماس مع مواصلة القتال اليائس طالما أنه يؤجل نهاية نفوذها في القطاع، بانتظار انعقاد المشهد الإقليمي على تسوية ما تؤمن دوراً لها.
لكن الأهم أن القتال في غزة لم يعد جزءاً من معادلة هزيمة محور الممانعة.
حزب الله هُزم في لبنان، والنظام السوري سقط في دمشق، والقتال متواصل في غزة. ثمة مصلحة إسرائيلية في عدم اكتمال المشهد. في لبنان نبحث عن حلول لسلاح حزب الله، وفي سوريا السلطة الانتقالية قطعت أشواطاً لمرحلة ما بعد بشار الأسد. ما بعد حماس بالنسبة الى إسرائيل غير ناضجٍ، ذاك أن الخطة تقضي بنقل السكان. إلى أين، وبمساعدة من؟ هذا ما لم ينضج بعد.
تعطيل مشروع إسرائيل يقتضي استباق المهمة الإسرائيلية بأن تعلن حماس موافقتها على الخروج من القطاع. لقد قتل وأصيب ما يقارب من ربع السكان. لم تعد الهزيمة ثمناً أكبر مما دفعه أهل القطاع، طالما أن إعلانها يعيق المهمة الإسرائيلية، أو على الأقل يجعلها أصعب. وربما يسبق إعلان الخروج تفاوض على الأسرى وعلى ضرورة أن تحل قوة فلسطينية مكان حماس. المهم هو إعاقة الترانسفير أو عمليات نقل السكان وإبعادهم عن المدن. هذا الهدف يفوق بأهميته مواصلة القتال اليائس، والضروري بالنسبة إلى إسرئيل.
لنتخيل المشهد مرة أخرى. حماس أعلنت موافقتها على الخروج من غزة. وتولت قطر وتركيا التفاوض على تبادل الأسرى، فيما تم التفاوض مع مصر على قوة فلسطينية لا نفوذ لحماس فيها لتحل مكانها في القطاع. من المؤكد أن إسرائيل لن تكون سعيدة بهذا الخيار، ولكن سيكون رفضه فضيحة من الصعب عليها إعلانها. فالمهمة المتمثلة بالتغيير السكاني لم تعد سهلة طالما أن الحرب انتهت.