يبدأ الاستبداد من اللغة. وفي أحيان كثيرة، تكون اللغة ساحته الوحيدة. في رواية “1984” لجورج أورويل، يروي كيف يتمّ تغيير التاريخ حين تتغيّر التحالفات. وهذا التغيير لا يبدأ بالوقائع، بل بالنصوص. في الرواية. في حكاية الماضي. تمهيداً للإطباق على الحاضر، والتحكّم بالمستقبل وهندسته.
ثمّ يأتي دور المصطلحات: “العدوّ” و”الصديق”. “العميل” و”الوطني”. “الحليف” و”المتدخّل في شؤوننا”. ومَن يسيطر على ميدان اللغة، يسيطر على سماء الخيال. وتكون له اليد العليا في صناعة الحكاية، أو إعادة تحديدها وتزويرها، بحسب أورويل.
مخطّط “الحزب” الدّعائيّ
المقدّمة السابقة ضروريّة، لفهم أسباب محاولة “الحزب” إلصاق تهمة “الصهيونية” تارة بالرئيس نوّاف سلام، وطوراً بأحد المثقّفين السياديّين والمتحرّرين من رُهاب التهم الجاهزة، الدكتور وسام سعادة.
في عمق هذه المعركة، يسعى الحزب إلى محو مفهوم “العمالة التقنيّة” من الوعي العامّ، أو على الأقلّ إلى تهميشه
والأرجح أنّ ذلك يأتي في إطار خطّة مدروسة بعناية، لاستباق انهيار الرواية التي طالما حكمت الوعي الشيعيّ في لبنان، وباتت اليوم موضع تشكُّك من أهلها أنفسهم. فقد تسرّبت إلى عموم بيئة “الحزب” الضيّقة، لا إلى معارضيه، فكرةٌ كانت في السابق “محرّمة”، وهي أنّ في قلب “الحزب” شبكة عملاء حقيقيّين. وأنّه لم يعد يمثّل “أشرف الناس”، بل مجرّد تنظيم يحتمي بشعارات قديمة لتبرير تحالفاته المريبة وانتهاكاته المتكرّرة.
إنّ “الحزب” في حاجة ماسّة إلى استعادة روايته: “الطهرانيّة” التي تبرّر سلطته، وتُلبِس أنصاره هالة المقاومة. لكنّ ذلك لا يكون إلّا عبر إعادة تعريف “العميل” بأنّه شخص من “خارج” البيئة الشيعية. ويُفضّل أن يكون مثقّفاً، ليُقال إنّ الثقافة بحدّ ذاتها مشبوهة. وغالباً، يُستحسن أن يكون مسيحيّاً أو يساريّاً سابقاً أو جامعيّاً.
وسام سعادة: محاولة إعدام رمزيّ
في هذه اللحظة الحسّاسة، التي تحوَّل فيها الانتماء إلى “الحزب” إلى مصدر شبهة، لا فخر، وبعد أسابيع من انكشاف شبكات تجسّس إسرائيلية من داخل مناطق “الحزب” نفسه، تفتّش المحكمة العسكرية (الواقعة تحت نفوذ “الحزب”) في هاتف وسام سعادة عن محادثة قديمة. تعثر على رقم كمبوديّ يعود إلى ستّ سنوات. وتبدأ حملة التفتيش والاشتباه.
ليست المعركة هنا ضدّ أشخاص، بل ضدّ مفاهيم. ليست ضدّ وسام سعادة، بل ضدّ فكرة أن تكون مثقّفاً حرّاً
لكنّ المفارقة أنّ الاستجواب لم يتضمّن أيّ سؤال عن شبهة تقنيّة أو تواصل حقيقيّ مع إسرائيل. لم يُسأل الرجل عن مراسلة، أو تنسيق، أو حتّى اتّصال. بل دارت الأسئلة حول رأيه في ابن ميمون وسبينوزا، وحول أطروحة جامعية قدّمها قبل 25 عاماً، وموقفه من المسألة اليهودية، ومن إسرائيل.
بدا التحقيق وكأنّه امتحان أيديولوجيّ، لا إجراء أمنيّ. تحقيق الغرض منه واضح: إخافة كلّ من يشبه وسام سعادة. رسالة إلى المثقّفين والناشطين والأساتذة والكتّاب: “رأيكم بات من اختصاص جهاز الأمن… ونحن نملك حقّ السؤال عنه، والتفتيش فيه، ومعاقبتكم عليه”.
هكذا تتحوّل الفكرة من محاولة لإدانة شخص، إلى محاولة إعدام رمزيّ لطبقة فكريّة كاملة. وذلك ليس لأنّها متورّطة، بل لأنّها مختلفة.
نوّاف سلام “صهيونيّ” أيضاً؟
من منّا لا يتذكّر المرأة المحجّبة التي صرخت، وهي تضحك وتقود سيّارتها الكبيرة، قائلة: “صاااهيووونيّ!”. كان مشهداً سورياليّاً، لكنّه تحوّل إلى حجر الأساس في حملة تحريض شعبويّة، تمهيداً لهتاف من نوع جديد: “نوّاف سلام صهيونيّ”.
ورُدِّد هذا الشعار في ملعب المدينة الرياضية، أثناء افتتاح مباراة النجمة والأنصار، بحضور الرئيس سلام. أراد المخرج السياسي أن يضفي على الهتاف طابع “الجماهيريّة”. فالنادي، بما له من رمزيّة في وجدان جزء من الطائفة الشيعية، صار منصّة شعارات سياسية، من “لبّيك يا نصرالله” إلى “نوّاف سلام صهيونيّ”.
لم يعد “العميل” في قاموس الحزب ذاك الذي يسرِّب المعلومات عبر هواتف مشفّرة من الضاحية، بل ذاك الذي يكتب مقالاً أو يدلي برأي يعارض روايته
ما يحصل هنا أبعد من كرة قدم، وأبعد من الشتائم. إنّه محاولة لتلقين الجمهور مفردات جديدة، وتثبيت عدوّ جديد، وفرض مسلّمات جديدة على وعي الطائفة. إذ لم يعد الخصم هو إسرائيل، بل كلّ من يقول إنّ “الحزب” لا يمثّل الشيعة، ولا الوطن، ولا فلسطين.
خاتمة: من يملك اللّغة… يملك الحقيقة
حين تُستبدل الأسئلة القانونية بأسئلة فلسفية عن ابن ميمون، وحين يصبح “العميل” هو المثقّف المختلف، لا المقاتل المسرِّب، نكون أمام واقعٍ لا يشبه رواية “1984” فحسب، بل يتجاوزها.
ليست المعركة هنا ضدّ أشخاص، بل ضدّ مفاهيم. ليست ضدّ وسام سعادة، بل ضدّ فكرة أن تكون مثقّفاً حرّاً. ليست ضدّ نوّاف سلام، بل ضدّ احتمال أن ينهار احتكار “الحزب” للحقيقة.
الحزب في حاجة ماسّة إلى استعادة روايته: “الطهرانيّة” التي تبرّر سلطته، وتُلبِس أنصاره هالة المقاومة
في عمق هذه المعركة، يسعى “الحزب” إلى محو مفهوم “العمالة التقنيّة” من الوعي العامّ، أو على الأقلّ إلى تهميشه. لم يعد “العميل” في قاموس “الحزب” ذاك الذي يسرِّب المعلومات عبر هواتف مشفّرة من الضاحية، بل ذاك الذي يكتب مقالاً أو يدلي برأي يعارض روايته. إنّه انقلاب على المفهوم نفسه: فالخيانة لم تعد أمنيّة، بل ثقافيّة وسياسيّة.
ولهذا السبب، يتعمّد “الحزب” شيطنة المثقّفين، واتّهام رؤساء الحكومات، ووصم المعارضين السياسيّين بالصهيونية بوصفها ليست تهمة أمنيّة، بل فعل رمزيّ يُلصَق بكلّ من يخرج عن طاعة “رواية الحزب”، أو يرفض بقاء سلاحه، أو يجرؤ على مساءلة أسطورته.
فالذي يملك اللغة، يملك التهمة. ويملك الغفران. ولا يزال يعتقد أنّه يملك التاريخ. والمستقبل. أما نحن، فلا نملك سوى الدفاع عن حقّنا في المعنى… وفي الكلام. والإثنان، أي المعنى والكلام، هما اللذان يكتبان التاريخ.