قد تتجاوز الضغوط من أجل تعديل مهامّ قوّات الأمم المتّحدة في جنوب لبنان ما هو معلن من المواقف. هناك خشية من أن تتعدّى الضغوط الأميركية الإصرار على إعطائها حرّية الحركة من دون إذن أو تنسيق مع الجيش اللبناني. وهو الأمر الذي رفضه “الحزب” في السنوات السابقة، وراعت السلطة اللبنانية هذا الرفض وتفهّمته بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وهو ما سهّل إزالة الشروط أمام تجديد انتداب القوّات.
هناك قلق راهن في دوائر ضيّقة من توجّه أميركي بين حدّين: التشكُّك في جدوى تجديد انتداب “اليونيفيل” هذه السنة، أو خفض عديدها للحدّ الأدنى.
تراوح معطيات أوساط سياسية ووزارية متابِعة عن كثب للموقف الأميركي في لبنان، بين توقّع المزيد من الإهمال لأحواله، بتركه “يقلّع شوكه بيديه”، وبين الاتّجاه نحو “تلزيمه” مجدّداً لقوى إقليمية.
الإهمال الأميركيّ وخيار “التّلزيم”
يفهم البعض من “التلزيم” أن توكل إدارته إلى دمشق بعدما تقدّمت التفاهمات بسرعة فائقة بين واشنطن وإدارة أحمد الشرع. ويتوقّع البعض الآخر “تلزيمه” للمملكة العربية السعودية، لأنّ سوريا تكفيها معضلاتها، ولأنّ دور الرياض الحاسم في تثبيت الاستقرار في بلاد الشام ينسحب على لبنان.
هناك قلق راهن في دوائر ضيّقة من توجّه أميركي بين حدّين: التشكُّك في جدوى تجديد انتداب “اليونيفيل” هذه السنة، أو خفض عديدها للحدّ الأدنى
تستدلّ هذه الأوساط من الملابسات التي رافقت مهمّة نائبة الموفد الرئاسي الأميركي مورغان أورتاغوس، ثمّ القرار باستبدالها، للإشارة إلى تراجع الاهتمام في إدارة دونالد ترامب بلبنان:
حين كلّف ترامب أورتاغوس بأن تكون موفدته إلى لبنان فعل ذلك لاختبار مدى نجاحها. فقد أتت إلى دائرة الموالين له بعدما كانت على خلاف معه تكيل له الانتقادات. وكان أبلغها أنّ عليها إثبات قدرتها على النجاح. وفي وقت كان الأهمّ بالنسبة لترامب في اختيار معاونيه هو الولاء الشخصيّ والصداقة الشخصيّة، أظهرت أورتاغوس حرصاً على التنسيق المباشر مع القيادة الإسرائيلية، كما فعل مستشاره للأمن القومي مارك والتس، الذي أقاله. هذا دفع ترامب لإعادة النظر في الموقف منها، من دون أن يعني ذلك تباينه مع السياسة الإسرائيلية حيال لبنان و”الحزب”. منذ مطلع الشهر الماضي فهم سياسيون لبنانيون أنّ “أورتاغوس مش مطولة” في منصبها، كما أبلغوا “أساس” قبل 3 أسابيع.
النّهج الأميركيّ تعجيز لبنان؟
المطالبة الأميركية للبنان بتسريع نزع سلاح “الحزب” وانتقادات بعض المسؤولين لما يعتبرونه “تباطؤ” السلطة بهذه المهمّة، ناجمة عن اعتماد واشنطن سياسة “التعجيز” مع لبنان. فإدارة ترامب تدرك أنّ قرار نزع سلاح “الحزب” يصدر من إيران، ويتّصل بالمفاوضات الدائرة معها بوساطة عُمانية. وآخر المؤثّرين في هذا القرار رجال السلطة اللبنانية. فعلى الرغم من الهزائم التي تعرّضت لها أذرعها في الإقليم، تتمسّك طهران بأوراقها التفاوضيّة حتّى اللحظة الأخيرة. يشمل ذلك دور وموقع الذراع الأهمّ، “الحزب”. ودبلوماسيّو واشنطن العارفون بدقّة التركيبة اللبنانية يدركون الحساسيّات اللبنانية الطائفية الشائكة، وبالتالي استمرار “الحزب” وطهران في الهيمنة على القرار الشيعي التي تحمي الاحتفاظ بالسلاح.
أورتاغوس سعت لمغادرة مهمّة لبنان
يدرك هؤلاء الدبلوماسيون أن لا نتائج من الضغط على السلطة لتسريع سحب السلاح، لأنّه قد يقود إلى صدام أهليّ. يشدّد بعض المتّصلين بالجانب الأميركي على أنّ النهج المتّبع “تعجيزيّ”. وحديث أورتاغوس عن أن لا حاجة إلى تمويل إعادة الإعمار من صندوق النقد الدولي، بل من خطّة استثمارية أحد المؤشّرات. والأرجح أنّ الهدف من كلّ ذلك تقطيع الوقت، ريثما تتّضح نتائج المفاوضات النوويّة والمعادلة الإقليمية. ولربّما دفع نهج “التعجيز” أورتاغوس للسعي إلى الهرب من الرمال المتحرّكة اللبنانية بالمطالبة بتعيينها موفدة خاصّة إلى سوريا. لكنّ خيار ترامب وقع على أحد أصدقائه المفضّلين توم باراك (السفير في تركيا منذ شهر نيسان الماضي والمتحدّر من أصول لبنانية زحلاويّة) الذي أخذ يبلي بلاءاً حسناً في التقارب الأميركي السوري، بعد أقلّ من أسبوعين على إيكال المهمّة إليه.
تعتقد الأوساط اللبنانية أنّ خلفيّات التوجّهات الأميركية حيال لبنان تفسّر ما يجري تداوله في شأن التجديد لـ”اليونيفيل”
توجّه لإنهاء دور “اليونيفيل”؟
تعتقد الأوساط اللبنانية أنّ خلفيّات التوجّهات الأميركية حيال لبنان تفسّر ما يجري تداوله في شأن التجديد لـ”اليونيفيل”. فالأخيرة تتعرّض لحملة إسرائيلية على دورها منذ انتدابها عام 1998، ثمّ منذ تحوّلها إلى قوّة “معزّزة” بعد حرب تموز عام 2006 وفقاً للقرار 1701. في حينها سُمّيت القوّة “اليونيفيل”-2 بعد رفع عديدها من ألفَي جندي إلى 11,500 (استقرّت الآن على 10 آلاف)، وتعزيز عتادها. تحذّر هذه الأوساط من أن ينجح الانحياز الأميركي لوجهة النظر الإسرائيلية في أن يجعل القوّات الدولية غير فعّالة في وضع حدّ لدور “الحزب” في الجنوب وفي لبنان عموماً. فاتّفاق 27 تشرين الثاني 2024 لوقف الأعمال العدائية في لبنان نصّ على نزع السلاح جنوب الليطاني وشماله، وعلى إجراءات مشدّدة لمنع توريد السلاح إليه. في معلومات هذه الأوساط أنّ واشنطن اقتربت كثيراً من فكرة إنهاء دور هذه القوّات. علاوة على أنّ إدارة ترامب السابقة (2017-2021) التي طرحت في مجلس الأمن مراراً الجدوى من استمرار “اليونيفيل”، ثمّ دعت إلى خفض ميزانيّتها (زهاء 500 مليون دولار سنوياً)، برزت مؤشّرات إلى عودتها لإعادة النظر في دورها جنوباً، بتحريض إسرائيلي. يدعم من يخشون توجّهاً كهذا بالنقاط الآتية:
ستتوقّف واشنطن عن دفع حصّتها الكبرى من موازنة “اليونيفيل”. من المؤشّرات أنّ موازنة الدولة الأميركية لعام 2025 لا تتضمّن اعتماداً لدفع تلك الحصّة. وهذا يأتي في سياق نهج ترامب خفض مدفوعات الخزينة الأميركية الدولية. وتوم باراك يعتقد بوجوب خروج دول الغرب من الشرق الأوسط.
إقرأ أيضاً: أورتاغوس لإقفال “القرض الحسن” من دون وعود بالمال؟
خيار “اليونيفيل” – 3
واشنطن غير مرتاحة لتنسيق الأمم المتّحدة مع “الحزب”. عبّرت عن انزعاجها مثلاً من اجتماع الممثّلة الخاصّة للأمين العامّ للمنظّمة الدولية جانين هنيس بلاسخارت، بمسؤول لجنة الارتباط والتنسيق في “الحزب” وفيق صفا، بالشكل والمضمون. فيما يسجّل الأميركيون مدى عنف تعدّيات مناصري “الحزب” على تحرّكات القبعات الزرق.
أشارت دراسة لـ”واشنطن إنستيتيوت” إلى الخيارات بشأن “اليونيفيل”، ومنها إنهاء مهمّتها، أو خفض عديدها إلى 2,500 جندي، مع تعزيز عتادها بالوسائل الإلكترونية، وصلاحيّاتها بإعطائها الحرّية المطلقة في الجنوب، بالتحرّك بلا مواكبة من الجيش وحقّها بتدمير مستودعات أسلحة في حال العثور عليها… بحيث تصبح “اليونيفيل -3″، أو السماح بانتشار الجيش بحيث يشكّل بديلاً عن هذه القوّات، ويمكن تحويل بعض التمويل إليه.