رفح. غزة– في الثاني من ديسمبر/كانون الأول الحالي، أُجبر الغزيون على النزوح القسري للمرة الثانية وبعضهم للمرة الثالثة، بعد تعليمات وتهديدات من الجيش الإسرائيلي لمناطق شرق مدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، كان الجيش الإسرائيلي قبلها قد قسم مناطق القطاع على الخريطة إلى مربعات محددة بأرقام، وطالب السكان بمتابعة الأخبار والبيانات الصادرة عنه لمعرفة أي من تلك المربعات يجب إخلاؤها إلى أخرى يحددها، تحت ذريعة أنها مناطق عسكرية لقتال المسلحين الفلسطينيين وبالتحديد مقاتلي “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة “حماس”.
خالد فرج الله من سكان حي النصر بمدينة غزة، كان قد أرغم على النزوح بداية الحرب مع زوجته وبناته الأربع إلى منطقة القرارة في خانيونس. استقر بشكل مؤقت في منزل أحد أصدقائه على أمل العودة إلى منزله خلال وقت قريب، إلا أنّ الفترة طالت وتجاوزت الشهرين على مكوثه مع عائلته هناك. يقول: “كنت بفكر منطقة القرارة بخانيونس منطقة آمنة ولن يدخلها الجيش”.
اختار الأب (44 عاما)، النزوح في منزل أصدقائه بديلا عن الخيام أو مراكز إيواء النازحين تلبية لرغبات واحتياجات أسرته، خاصة وأنهم كفتيات بحاجة إلى خصوصية في التفاصيل اليومية، تقول ابنته مريم: “كان لديّ غرفتي وحياتي الخاصة، كان لنا بيت يحفظ خصوصيتي وعائلتي لكننا فقدنا كل شيء بعدما دمرت إسرائيل منزلنا وحاجياتنا ومنعتنا من العودة”.
علمت العائلة بقصف منزلهم الذي كان ضمن بناية سكنية استهدفها الجيش الإسرائيلي خلال اجتياحه لغزة والمعارك التي دارت مع الفصائل الفلسطينية، لتفقد العائلة أي أمل بالعودة إلى منزلها. كان فقدان المنزل بكافة محتوياته صدمة بالنسبة لهم. لكن الصدمة الأكبر كانت عندما شعروا بفقدان المنزل البديل الذي احتضنهم لأكثر من شهر ونصف الشهر شرقي خانيونس.. “لم نعلم إلى أين سنذهب؟ ماذا سنفعل؟ وكيف سنلبي احتياجاتنا” تقول مريم (19 عاما).
استقرت عائلة فرج الله في قراراها باللجوء إلى مركز إيواء شمال غربي خانيونس، هناك عند أقارب لهم، كان أفراد العائلة قد نزحوا واستقروا في المركز منذ بداية النزوح خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لتتحول وتتبدل حياتهم بشكل أكثر صعوبة من السابق، حيث أصبح استخدام الحمام بحاجة إلى الوقوف في طابور طويل لأكثر من نصف ساعة حتى يصل الدور إلى إحداهن.
تضيف مريم: “تخيل أكتر من 5 آلاف شخص في المركز يستخدمون حمامين، واحدا للنساء والثاني للرجال، ومتلاصقين لازم أقف طابور دون أي مراعاة لخصوصية النساء والفتيات سواء أرادوا قضاء الحاجة أو الاستحمام أو غسل ملابسهن”.
حاول رب أسرة فرج الله البحث عن شقة سكنية لاستئجارها، لكن محاولاته باءت بالفشل، مع كثافة النازحين والحاجة المُلحة لمئات الوحدات السكنية البديلة للعائلات والأُسر النازحة بعدما فقدت مأواها الوحيد ومُنعت من العودة إلى مدينة غزة وشمال القطاع بتهديدات من الجيش الإسرائيلي الذي أقام حاجزا على شارع صلاح الدين، وهو الشارع الرئيس الذي يربط أقصى شمال القطاع مع أقصى جنوبه.
يقول فرج الله: “نحن أفضل من غيرنا، على الأقل يتوفر هنا بعض الماء وحمام، بينما آخرون في مناطق أخرى يفتقدون أدنى مقومات الحياة”.
يشعر الأب بالخوف من عدم انتهاء الحرب في وقت قريب، أو اضطرارهم لتحمل تجارب نزوح أقسى من تجربة النزوح الحالي وهو النزوح الثاني للعائلة.
وقد نزح إلى المناطق الجنوبية في بداية النزوح القسري أكثر من 600 ألف فلسطيني غزي، بحسب مؤسسات دولية وأُممية لم تستطع توفير أدنى الاحتياجات الأساسية للنازحين خلال أكثر من شهرين على نزوحهم. ومع توسيع الحرب الإسرائيلية ومناطق العمل العسكري التي حددها الجيش الإسرائيلي، تضاعف عدد النازحين المُطالبين بالنزوح إلى المنطقة الغربية لمدينتي خانيونس ورفح لكن دون القدرة على تحديد أعداد النازحين هناك.
واستقرت الغالبية العظمى من النازحين خلال بداية ديسمبر/كانون الأول الحالي، في منطقة تعرف باسم “المواصي” وتقدر مساحتها بنحو 13 كيلومترا مربعا، وتقع على الساحل الغربي لمدينتي رفح وخانيونس، كانت قبل عام 2005 الذي انسحبت منه إسرائيل من القطاع بشكل أحادي الجانب، مستوطنات إسرائيلية يُمنع على الغزيين دخولها. وتحولت المنطقة فيما بعد إلى منطقة صحراوية لا تصل غالبيتها الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وصرف صحي.
عائلة عبدالله موسى من شمال قطاع غزة، كانت واحدة من العائلات التي لجأت إلى مركز إيواء (مدرسة) في منطقة معن شرقي خانيونس هربا من كثافة القصف الإسرائيلي وجنود الجيش وآلياته العسكرية المتوغلة في منطقة سكنهم بداية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. لم تفكر العائلة في أزمات النزوح والوضع الكارثي الذي يعيشه النازحون بمركز الإيواء، كان التفكير المُسيطر على حياتهم “كيف ننجو من الموت جميعا”.
حاولت العائلة التأقلم داخل مركز الإيواء، وهي الحياة التي أُجبروا على عيش تفاصيلها اليومية، وخاصة النساء منهم. طوابير الانتظار على أبواب الحمامات، ارتداء ملابس الصلاة طوال الليل والنهار وحتى خلال ساعات النوم التي لم تمنحهم أي خصوصية مع كثافة أعداد النازحين، إلى جانب طوابير الحصول على الخبز والطعام وماء الشرب التي استهلكت ساعات طويلة من حياتهم اليومية، ولم يعتقدوا أنّ ما ينتظرهم أصعب وأقسى من السابق.
بعد انتهاء فترة الهدنة الإنسانية التي دامت 7 أيام، وجرى خلالها تبادل عدد من المحتجزين الإسرائيليين في غزة مقابل أسرى من النساء والأطفال الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، كان لدى موسى أمل في الإعلان عن وقف إطلاق النار والسماح لهم بالعودة إلى مناطق سكنهم.. “كنت بتأمل أرجع البيت، حتى لو رُكام، مُستعد أعمل خيمة فوق الرُكام ولا الحياة المفروضة علينا هنا”، يقول موسى البالغ من العمر 56 عاما.
لم تأت النتائج بحسب الآمال. بل على العكس، اشتد الوضع سوءا بعد اضطرارهم على النزوح القسري للمرة الثالثة، حيث سبقها نزوح إلى مركز إيواء شمال القطاع قبل النزوح إلى جنوبه، ليضطروا إلى النزوح قسرا إلى منطقة المواصي غربي مدينة رفح أقصى جنوبي القطاع على أمل أن يكون النزوح الأخير قبل العودة.
“المنطقة شبه صحراء، لا حمامات، لا مياه، لا كهرباء، ولا خيمة خاصة”، هكذا وصف موسى المنطقة لحظة وصوله إلى المواصي، حيث اضطر إلى دفع ملبغ مالي تجاوز 250 دولارا إلى أحد الأشخاص الذي تكفل بشراء أخشاب وعدة أمتار من النايلون وتجهيز خيمة لأسرته المكونة من 12 فردا، دون توفير أي من الخدمات الأساسية. استقرت العائلة بعد ساعات من وصولها داخل الخيمة التي أحاطتها مئات الخيام على مد البصر، يمينا ويسارا.
سعى رب الأسرة إلى توفير بعض المياه الصالحة للشرب وأخرى للاستخدام اليومي. أشعل النار ببعض الحطب والأخشاب التي جمعها مع أبنائه من منطقة قريبة منهم لإعداد الطعام، لكن السؤال الأهم الذي أصبح يُلح عليه من زوجته وبناته: “أين سنقضي حاجتنا ونستحم؟”. يوضح أنّ قضاء الحاجة أمر طبيعي لأي إنسان لكنهن بحاجة إلى مكان يحفظ خصوصيتهن كنساء وفتيات.
شعر الأب بحيرة أكلت رأسه كما وصفها خلال حديثه، حتى تعرفت زوجته خلال اليوم الثاني من نزوحهم على جاراتها في الخيام، واللواتي اتفقن على السير باتجاه أقرب منطقة سكنية من مكانهم، هناك دقوا أحد المنازل وطلبوا منهم مساعدتهن. لم تتوان العائلة عن المساعدة.. “حددت لنا العائلة يوميا ساعة وسط النهار نستطيع خلالها القدوم لاستخدام الحمام، قضاء الحاجة أو الاستحمام وحتى غسيل الملابس”، تقول زوجة موسى.
ربما حُلت مشكلة النساء بشكل جزئي، وبما هو مُتوفر قدر الإمكانيات، لكن واجهتهن مشكلة عدم توفر المياه بشكل دائم وبكميات كبيرة لدى أصحاب المنزل الذي لجأوا إليه بسبب انقطاع الماء لساعات طويلة بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء التي قد تساعد أصحاب المنزل على سحبها بواسطة الكهرباء أو المولدات الكهربائية التي تفتقر للمحروقات جراء منع إسرائيل دخولها بداية الحرب، ثم سماحها بدخول كميات مُقننة منها خلال فترة الهدنة وما بعدها، ولا تكفي حاجة المستشفيات لتشغيل مولداتها الكهربائية وسيارات الإسعاف والدفاع المدني، ويبقى لسان حال موسى ونازحين آخرين: “هل هذا هو النزوح الأخير؟ هل سنعيش لنشهد نزوحا رابعا أم سنعود لمنازلنا؟”.