ولّد كل من أداء الجيش الأوكراني وإخفاقات الجيش الروسي في المراحل الأولى من الحرب في أوكرانيا انطباعا مفاده أن الحرب قد تتطور لمصلحة أوكرانيا، وأن روسيا ستندم على غزوها أوكرانيا. وليست هذه بالضبط الكيفية التي تتكشف بها الأمور.
ليس ثمة كلام يصف شجاعة وتضحيات الأوكرانيين في الدفاع عن وطنهم. ولكن بدأت الصعوبات الناجمة في الأغلب عن حقائق السياسة الدولية ومآسيها السيئة تلقي بظلالها على المشهد.
ولم ينجح الهجوم الأوكراني المضاد الذي يُشن في ساحة المعركة؛ إذ لا يمكن وصف المكاسب التي تحققها جيوب صغيرة جدا مقابل أعداد كبيرة من الضحايا بالإنجاز.
ويشير خبراء عسكريون إلى الخسائر الفادحة التي مُنيت بها روسيا في الحرب. حيث عانت آلة الحرب الروسية كثيرا، لكنها لم تنهر بعد.
بل على العكس من ذلك، ازدهرت آلة الحرب الروسية وما زالت الآلية العسكرية قادرة على تجديد نفسها. فروسيا صامدة، وتُحرز تقدما في بعض الأماكن. كما أنها استخدمت أصولا وتكتيكات عسكرية إضافية، بما يشمل الحرب الإلكترونية والاستخدام المكثف للمسيرات. وعلى الرغم من سقوط الجنود الروس في المعركة، إلا أن جنودا جددا يواصلون القدوم على الرغم من فرار عدد كبير من الشباب الروس إلى الخارج كي يتفادوا الذهاب إلى الخنادق.
وكانت هناك توقعات بأن الخسائر سيكون لها تأثير في السكان الروس وأن المعارضين سيُظهرون معارضتهم للحرب بقوة أكبر، لكن لم يحدث شيء من هذا القبيل.
كانت روسيا تاريخيا دولة ذات عتبة ألمٍ ومعاناة عالية جدا، وهذا هو الحال في يومنا هذا أيضا؛ فحكم بوتين الاستبدادي لا يُفسح أي مجال للمعارضة. ومن الممارسات الشائعة أن يتعرض المعارضون الروس لتدخل قاسٍ من الشرطة وبالتالي يجدون أنفسهم في السجن لفترات طويلة جدا، من دون محاكمة في أغلب الأحيان. وهو ما يعتبر تثبيطا خطيرا للروس يمنعهم من التحدث علنا ضد الحرب.
ولم يحقق الجهد الذي تبذله الولايات المتحدة والغرب لعزل روسيا دوليا النجاح المطلوب؛ فالعلاقات مع الصين، والتي تشتري الصين بموجبها من روسيا الأشياء التي لم يعد يشتريها الغرب، تشكل ميزة عظيمة بالنسبة لروسيا. وفي الفترة الأخيرة زادت مبيعات النفط وزاد الدخل الروسي مقارنة بفترة ما قبل الحرب.
وعلى الرغم من وجود أمر اعتقال دولي بحق بوتين، إلا أنه يظل مجردا من أي تأثير حقيقي؛ إذ يواصل بوتين نشاطه الدبلوماسي ويحظى بأهمية كبيرة؛ فقبل بضعة أيام وحسب، رُحب به عبر إجراءات بروتوكول الدولة الكامل على السجادة الحمراء خلال زياراته إلى كل من الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية. ويتمتع بوتين في الكثير من البلدان بصورة إيجابية باعتباره زعيما قويا يقف في وجه الغرب دفاعا عن مبادئه.
إن بوتين الذي أصبح أكثر جرأة، والذي أعلن أنه سيرشح نفسه لولاية رئاسية خامسة، أكد في بيان صدر قبل بضعة أيام أن روسيا تقاتل حاليا ليس من أجل حريتها وحسب، بل من أجل حرية العالم بأسره، ومن أجل خلق نظام عالمي أكثر عدالة. وبهذا يتحول بوتين من غازٍ إلى منقذ.
إن الوقود الرئيس لجهد أوكرانيا الحربي هو المساعدات العسكرية والمالية التي تتلقاها من الغرب. وقد يكون ذلك الوقود في خطر. وكانت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من الداعمين الرئيسين لأوكرانيا. ومنذ البداية، زعم الرئيس الأميركي جو بايدن أنه إذا لم تُهزم روسيا في أوكرانيا، فإنها ستصبح أكثر عدوانية وستشكل تهديدا للدول الغربية، من ضمن دول أخرى.
وأعلن حلف شمال الأطلسي أن روسيا هي التهديد الأهم والأكثر مباشرة لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية. وبعد بدء الحرب في أوكرانيا، صرح الرئيس بايدن بما يلي: “يجب أن نلتزم بالبقاء في هذه المعركة لفترة طويلة. ولن تكون المعركة سهلة، وستكون هناك تكاليف. إن هناك ثمنا علينا دفعه”.
تشبه هذه الكلمات دعوات ونستون تشرشل لشعبه قبل 85 عاما. لكن الظروف أو الأمل في الاستجابة لا يشبهان ما كان موجودا في زمن تشرشل. فمع مضي 21 شهرا منذ بداية الحرب، يتفاقم الإرهاق في الغرب بسرعة أكبر من الإرهاق في روسيا على ما يبدو.
وجاءت الأخبار السيئة الأسبوع الماضي من الولايات المتحدة عندما رفض مجلس الشيوخ طلبا لإدارة الرئيس بايدن بـ105 مليارات دولار، والذي تضمن 61 مليار دولار مخصصة لأوكرانيا.
كان أحد أسباب الرفض أمرا غير ذي صلة؛ إذ ربط أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون الأميركيون المبلغ بمسألة الهجرة، وطالبوا بتشديد الرقابة على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
أما السبب الآخر الذي ذكره أعضاء مجلس الشيوخ فهو يتعلق بأوكرانيا نفسها؛ إذ شكك أعضاء مجلس الشيوخ في الهدف، وتساءلوا عن “نهاية هذه اللعبة”.
وسيكون للانتخابات المقبلة وفرص انتخاب دونالد ترمب انعكاسات على سياسة أوكرانيا، إذ إنه من المتوقع أن تختلف سياسات ترمب عن سياسات بايدن.
وبالمثل ظهرت مشاكل داخل الداعم الرئيس الآخر للمجهود الحربي الأوكراني، أعني هنا الاتحاد الأوروبي؛ إذ إن ثمة خلافات بين الدول الأعضاء حول الدعم المقدم لأوكرانيا ودرجة الموقف المناهض لروسيا. وفي هذا الصدد، تتبنى المجر النهج الأكثر صرامة ضمن المجموعة المستاءة، وهي الدولة التي حافظت على موقفها منذ بداية الحرب.
ومن المقرر أن تتناول قمة الاتحاد الأوروبي التي ستُعقد الأسبوع المقبل بدء مفاوضات انضمام أوكرانيا وكذلك حزمة مساعدات مخصصة لها بقيمة 50 مليار يورو.
وكان رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان قد هدد باستخدام حق النقض (الفيتو) في كلتا القضيتين. ومن المتوقع أن تكون الأيام القادمة صعبة عندما تتولى المجر رئاسة الاتحاد الأوروبي في يوليو/تموز من العام المقبل.
إن الانسحاب الفوضوي من أفغانستان لا زال ماثلا في أذهان الجميع، كما أن سياسة الحرب الدائرة في غزة ما زالت تثير الإدانة العالمية لمن أعلنوا أنفسهم أبطالا للديمقراطية وحقوق الإنسان.
كما أن التراجع عن دعم أوكرانيا من شأنه أن يلحق المزيد من الضرر بصورة كل من الولايات المتحدة والغرب المتضررين بالفعل وكذلك بمصداقيتهما، وهو ما سيؤدي إلى ميل ميزان الشعبية لصالح روسيا والصين.