تريد إسرائيل أن تحوّل المنطقة من حولها إلى صحارٍ وتدعو ذلك سلامًا. منذ يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، بات من الواضح لقيادتها، إلى جانب الثغرات في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، أن المشروع الصهيوني في مأزق. فالسياسيون الإسرائيليون يحاولون منذ عقود محو الوجود الفلسطيني في وسطهم، بيد أن الفلسطينيين باقون على أرضهم. ويعيش نحو ٥ مليون فلسطيني فسينقلب المعدّل الأعلى لمواليد الفلسطينيين ضدّهم شيئًا فشيئًا، نظرًا إلى أن تعداد السكان اليهود في إسرائيل
مع ذلك، ليست هذه المخاوف معزولة عن عوامل أخرى. يرى الإسرائيليون أن الغالبية الديموغرافية الفلسطينية الناشئة في إسرائيل والأراضي المحتلّة تشكّل خطرًا أكبر لأنها تحظى بدعم ميليشيات مسلّحة جيّدًا، على رأسها حزب الله، وتساندها قوة إقليمية هي إيران. لهذا السبب، يرغب بعض السياسيين الإسرائيليين في تمديد رقعة الحرب في غزة لتشمل لبنان، مفترضين أن الدعم الأميركي لإسرائيل في غزة قد يُفسح المجال أمام تنفيذ عملية عسكرية كبرى على الجبهة الشمالية.
يسود حتمًا من أن إسرائيل تنوي استخدام الأسلحة التي حصلت عليها من واشنطن لشنّ حربٍ على حزب الله. لكن، يبدو من المستبعد حتى الآن أن الأميركيين سيسمحون بحرب كهذه، لأنها بمشاركة الولايات المتحدة وإيران. منذ بداية النزاع في غزة، تجري إدارة بايدن وطهران ، سمحت بالحفاظ على حالةٍ من الاستقرار غير المستقر في لبنان، يتبادل بموجبها حزب الله وإسرائيل الهجمات عبر الحدود، إنما ضمن قواعد الاشتباك المتّفق عليها.
لكن، هل يبعث الإسرائيليون على الطمأنينة فعلًا في هذا الصدد؟ من الممكن جدًّا أن يسعوا إلى إشعال فتيل النزاع في لبنان ووضع إدارة بايدن أمام خيار صعب بين إما مساعدتهم، أو تكبّد ثمن سياسي نتيجة الإحجام عن ذلك. طبعًا، سيكون هذا الوضع محفوفًا بالمخاطر، ولا سيما أن البعض في واشنطن يعتبرون أن لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مصلحة في توسيع رقعة الصراع في المنطقة لإنقاذ مستقبله السياسي.
في هذا السياق، شرح “هذه لحظة محورية في التاريخ، ويجب أن نشعر بالغضب إزاء الطريقة التي أحرق نتنياهو من خلالها سمعتنا بكل ما للكلمة من معنى لتعزيز أجندته السياسية الشخصية. إن تبعات ذلك ستكون وخيمة على الأمن الأميركي”.
لا يخاطر الأميركيين أو الفرنسيون مع إسرائيل. فقبل أسابيع قليلة، أوفدت إدارة بايدن آموس هوكستين إلى بيروت لتوجيه رسالة إلى حزب الله مفادها أن الولايات المتحدة لا تريد حربًا في لبنان. ونقلت مصادر أن هوكستين، الذي ترك بصماته في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، سعى أيضًا إلى ، لكن أشارت تقارير صحافية آنذاك إلى أن حزب الله لم يكن مستعدًا بعد لهذه الخطوة.
مع ذلك، يُعدّ الوضع اليوم في غاية الخطورة لأسباب عدّة: أولًا، حتى في حال التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار ينهي النزاع في غزة، قد لا تَرد أي ترتيبات رسمية مماثلة لتهدئة الجبهة في لبنان. بعبارة أخرى، يُحتمَل أن تحتفظ إسرائيل بهامشٍ للاستمرار في ضرب أهداف في البلاد، والمطالبة بعدها بتنازلات مقابل إنهاء حملتها العسكرية. وتتمثّل أكثر هذه التنازلات ترجيحًا في ضمان انسحاب قوات حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، من أجل السماح للإسرائيليين المقيمين على مقربة من الحدود الشمالية بالعودة إلى منازلهم.
يتوافق المطلب الإسرائيلي مع قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي أنهى حرب العام 2006 في لبنان، ودعا إلى “اتخاذ ترتيبات أمنية لمنع استئناف الأعمال القتالية، بما في ذلك إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة بخلاف ما يخصّ حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)”. علاوةً على ذلك، أكّد رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي . بتعبيرٍ آخر، سيكون من الصعب على حزب الله رفض مبادرة لدفع عناصره بعيدًا عن الحدود، إذا كان ذلك يمثّل انتهاكًا علنيًا لقرار أُممي تدعمه الدولة اللبنانية.
وفرنسا بدورها أرسلت خلال الشهر ونصف الشهر الفائت مسؤولين إلى لبنان لتجنّب تدهور الأوضاع في البلاد. أولًا، بعثت باريس بوزيرة خارجيتها كاترين كولونا، ثم وزير دفاعها سيباستيان لوكورنو، وتبعهما الموفد الرئاسي جان إيف لودريان، الذي تركّزت مهمّته على تمديد ولاية قائد الجيش اللبناني جوزيف عون إلى ما بعد كانون الثاني/يناير. أخيرًا، وصل الأسبوع الماضي إلى بيروت رئيس الاستخبارات الخارجية الفرنسية برنار إيمييه، في تنسيقٍ على ما يبدو مع الدول العربية وغير العربية التي تتابع الأحداث في لبنان عن كثب، لاقتراح حلٍّ لإنهاء القتال في جنوب لبنان، ودفع حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني. ووفقًا ، رفض الحزب هذا الاقتراح قائلًا إنه لن يتوقّف عن قصف إسرائيل إلا عند انتهاء الصراع في غزة، وإن الوضع في لبنان سيعود إلى ما كان عليه قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر حالما يحدث ذلك.
لكن ثمّة فرصة لتسويةٍ تناقض الردّ السلبي لحزب الله، إذ تردَّد أن إيمييه، وهو سفير سابق في لبنان يتمتّع بعلاقات جيدة في البلاد، اقترح أن يسحب الحزب عناصر التابعة له إلى الليطاني. ما الذي يعنيه ذلك؟ ما لم توضَع قوةٌ على الأرض تُدقّق في كل رجل يدخل إلى جنوب لبنان، وهو أمر مستحيل تقريبًا، يمكننا أن نفترض أن عناصر وحدة الرضوان سيدخلون مجددًا إلى المنطقة متى شاؤوا، نظرًا إلى أن الكثير منهم يتحدّرون منها ولهم عائلات فيها. فقد حصل الأمر عينه مع القرار 1701 في العام 2006، إذ سرعان ما عاد حزب الله إلى جنوب الليطاني، ولم تكن لدى الجيش اللبناني أو قوات اليونيفيل السلطة لمنع عناصر الحزب من العودة إلى قراهم.
حزب الله يعي هذه الحقيقة، ولذا لا بدّ من تفسير ردّه السلبي على إيمييه بحذر. من المؤكّد أن الحزب غير راغبٍ في الالتزام بوقف الأعمال العدائية قبل نهاية الحرب في غزة، ولكن غالب الظنّ أنه سيحرص على الموافقة على إنهاء رسمي للقتال في لبنان حالما يجري التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار، ولو فقط تفاديًا لأي غموض قد تستغلّه إسرائيل لشنّ حرب.
يبقى السؤال الرئيس ما إذا كان الإسرائيليون على استعداد لقبول هذه الحيلة. لا تبدو حكومة نتنياهو في مزاجٍ لذلك، غير أن عوامل عدّة ترجِّح قبولها. أولًا، قد تمثّل الحرب مع حزب الله تصعيدًا إقليميًا كبيرًا من الممكن أن يسفر عن دمار جسيم في إسرائيل. ونظرًا إلى المعارضة الداخلية التي يواجهها نتنياهو، قد يتقلّص الدعم لحكومته إذا ما رأى الإسرائيليون في الحرب مع لبنان محاولةً من رئيس الوزراء لضمان بقائه السياسي. إذًا، إن الاندفاعة الإسرائيلية لمعاقبة حماس لا تمتدّ بالضرورة إلى حزب الله.
ثانيًا، ، خصوصًا في عامٍ انتخابيّ للرئيس بايدن. فهذا الأخير، ولذا من المستبعد جدًّا أن يعطي إسرائيل الضوء الأخضر لتمديد الحرب بطريقة قد تزّج القوات الأميركية فيها. لقد ضاق الأميركيون ذرعًا بالصراعات الخارجية غير المتناهية، ومن المؤكّد أن حربًا جديدةً في الشرق الأوسط ستقوّض مساعي بايدن لإعادة انتخابه. ثم إن الإدارة الأميركية تستطيع استخدام نفوذها الكبير في عملية صنع القرار في إسرائيل. فواشنطن هي التي تزوّد هذه الأخيرة، وقد تقرِّر حتى أن السفن الأميركية لن تتدخّل في حال أثارت إسرائيل صراعًا في لبنان من دون موافقة أميركية.
ثالثًا، إن حربًا في لبنان، ولا سيما حرب يُنظَر فيها إلى إسرائيل على أنها المعتدي، ستثير ردود فعل غاضبة في مختلف أنحاء العالم أكثر مما أثارته الحرب في غزة، التي أطلقت فيها حماس الطلقات الأولى. وقد يشكّل ذلك بدوره تهديدًا للمكاسب التي حقّقتها إسرائيل في غزة، ويعقّد الأهداف الإسرائيلية، ويُرسي وضعًا جديدًا بالكامل لن تتمكّن القوة النارية الإسرائيلية وحدها من حلّه. وإذا ما أرادت إسرائيل توسيع نطاق الحرب لتشمل لبنان، فعليها الاستعداد على الأرجح لصراع مع إيران أيضًا، ما يأخذ الأمور إلى مستويات قد لا يكون الإسرائيليون والأميركيون مُهيَّئين تمامًا لمواجهتها.
إن وافق حزب الله على سحب وحدة الرضوان من الحدود، إضافةً إلى الانصياع للضغط الدولي من أجل التمديد لعون قائدًا للجيش، فسيُطالِب بشيء في المقابل. تُجمِع الآراء اللبنانية على أنه سيطلب من محاوري لبنان العرب والدوليين. وإذا نتجت عن ذلك صفقةٌ شاملة، فلن يكون أمام خصوم فرنجية المسيحيين خيارٌ سوى القبول به.
في الظاهر، قد يقدّم هذا التدبير شيئًا لكلّ طرف من الأطراف، حتى وإن ترك الكثير من الأسئلة من دون إجابات. فهل سيقبل حزب الله مثلًا بأن تتعرّض حماس لانتكاسة كبرى في غزة من دون أن يردّ؟ يبدو أنه لن يسمح بحدوث ذلك نظرًا إلى رفضه مناقشة أيّ تنازلات قبل توقّف القتال هناك. ولكن لنفترض أن استجابته ستظلّ محدودة، عندئذ سيحصل حزب الله على الرئيس الذي يريده، وستتمكّن إسرائيل من ادّعاء نوعٍ من الانتصار في غزة من دون حصول أيّ ردّ فعل لبناني كبير، ومن إعادة مواطنيها إلى منازلهم في الشمال، وسيتجنّب الأميركيون والإيرانيون حربًا إقليمية، وسيُعفى لبنان من التدمير، ما من شأنه طمأنة رعاته العرب والغربيين.
هل هذا السيناريو مثالي على نحو مفرط؟ ربما، ولكن على الإسرائيليين أن يعوا أن الأمن على حدودهم يعتمد في نهاية المطاف على كفاءة قوّتهم العسكرية، لا على حسن نيّة أعدائهم. من السذاجة بمكانٍ، في ضوء الواقع اللبناني، توقُّع بقاء وحدة الرضوان منتشرةً بعيدًا عن حدود إسرائيل، وفي الوقت نفسه مطالبة الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل بتنفيذ ذلك. ليس لدى إسرائيل هامشٌ كبير لتوسيع نطاق الصراع في غزة، ولذا في ظلّ هذه الظروف، ونظرًا إلى الإدانة العالمية للمذابح التي ترتكبها بحقّ الفلسطينيين، قد تضطر إلى القبول بما يمكنها الحصول عليه.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.