يُمثّل هجوم المسيّرات الأوكرانية في العمق الروسي، والذي أدّى إلى تدمير قاذفات استراتيجية، نقطة تحوّل في الحرب الروسية – الأوكرانية، علماً أنه جاء عشيّة الجولة الثانية من المحادثات التي انعقدت، أول أمس، بين وفدَي البلدَين المفاوضَين، في مدينة إسطنبول التركية. لكن الهجوم لم يؤثّر، على أيّ حال، على خطط انعقاد طاولة إسطنبول، ما يمكن عدُّه مؤشّراً إيجابيّاً، أو ذروة في الخداع؛ ذلك أنّ الكبرياء الروسية التي جُرحت عميقاً، لا تفسح المجال لأيّ نوع من المساومات الجديدة، لعقد صفقة سلام في قضيّة تزداد تعقيداً، ولا سيّما مع الشروط التي وضعتها موسكو لوقف الحرب، والتي لا يبدو أنّ كييف في وارد القبول بها.
ورغم كل هذه الأجواء التشاؤميّة، فإن تركيا لا تزال تتمسّك بدورها الوسيط الذي يُعتبر خشبة رئيسها، رجب طيب إردوغان، ليضيف إلى هالته الإقليمية الجديدة بعد سقوط النظام السوري، هالةً دولية يستغلّها لتعزيز صورته الخارجية، وللمضيّ في ترتيب مصالحه الداخلية في تصفية معارضيه. ولذا، فقد أعلن إردوغان، بعد جولة المحادثات الثانية، أنّ جُلّ همّه يتركّز على لقاء قمّة يجمعه إلى الرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في إسطنبول، مع الأمل في أن ينضمّ إليهم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب.
وإذ أشاد إردوغان بجهود وزير خارجيّته، حاقان فيدان، فهو اعتبر أنه قام بعمل «رائع جدّاً جدّاً» عندما جمع وفدَي روسيا وأوكرانيا مجدّداً إلى الطاولة. ومع أنّ رهان الرئيس التركي لا يبدو قريباً من التحقّق، إلا أنّ ممّا قد يحفّزه على المضيّ فيه إعلان الناطقة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أن ترامب منفتح على عقد قمّة رباعية، إذا كانت ستجلب الطرفين الروسي والأوكراني إلى طاولة المفاوضات. ومن جهته، أكّد زيلينسكي جاهزيّته للاجتماع، الذي من دونه «لا يمكن أن يتحقَّق وقفٌ لإطلاق النار».
وكان قد قوبل الهجوم الأوكراني على روسيا بتعليقات تركية محذّرة من عواقب التصعيد في الحرب الدائرة؛ إذ اعتبرت صحيفة «قرار» أنّ الوفد الأوكراني جاء إلى محادثات إسطنبول «متأبّطاً ملفّاً ناجحاً تمثَّل في الهجوم المفاجئ والمثير في العمق الروسي». وفي صحيفة «تركيا»، كتب إسماعيل قابان، بدوره، أنّ «الكرملين يقرأ الهجوم الأوكراني على أنه هجوم أطلسي؛ فأوكرانيا لا يمكن أن تنفّذ هجوماً بهذا الحجم وبهذه النوعية»، لافتاً إلى أنّ «الهجوم والردّ الروسيَّين المحتملَين يفتحان أمام تهديدات كبيرة، خصوصاً للأمن الأوروبي». ووفقاً للكاتب، فإنّ «الواقع على الأرض ليس جيّداً، وطبيعة الردّ الروسي ستكون حاسمة في الأمدَين القريب والمتوسط، وإن المسألة تتلخّص في كيفيّة قراءة الكرملين للرسالة التي وجّهتها إليه الولايات المتحدة والاتّحاد الأوروبي».
«إسرائيل ستُسرّ أيضاً باستخدام روسيا للأسلحة النووية، لأنها تريد مبرّراً لاستخدامها في غزة»
ومن أبرز التعليقات في هذا الإطار أيضاً، ما ورد على لسان الكاتب المقرّب من إردوغان، إبراهيم قره غول، في صحيفة «يني شفق»، من أنّه «إذا انهارت طاولة إسطنبول بين روسيا وأوكرانيا، فهذا يعني أنّ الصواريخ ستهطل على موسكو وبرلين ولندن». وقال قره غول: «في ظلّ اختراع البارود وتكنولوجيا الحروب والمسيّرات لم تَعُد هناك خطوط أولى وأخيرة في الحروب. وإذا دخل أيّ بلد في حرب، فإن البلد كلّه سيكون في أتونها وليس فقط الخطوط الأماميّة. لم يَعُد ممكناً لأيّ بلد أن يدافع عن حدوده فقط عند النقطة الصفر منها»، معتبراً أنّ «جيوش المهندسين حلّت محلّ الجنود».
ورأى قره غول أنّ الهجوم الأوكراني أَظهر أنّ «الحرب لم تَعُد في البرّ الأوكراني، بل على كلّ البرّ الروسي»، مشيراً إلى أنّ «أوكرانيا لم تقُم بمفردها في هذا الهجوم، وأنّ الصواريخ بعيدة المدى قد استخدمت أيضاً»، وأضاف: «الحرب بعد هذه العملية تجاوزت كونها ثنائية بين روسيا وأوكرانيا. ومع أنّ أحداً لا يرغب في الحرب النووية، لكنّنا على بعد أمتار قليلة منها». كذلك، تساءل عن السبب الذي يحدو بأوكرانيا إلى القيام بهجوم من هذا النوع قبل يوم من الجولة الثانية لمحادثات إسطنبول، وعمّا إذا كان الدافع هو إجبار روسيا على تقديم تنازلات، ليجيب بأنّ «هذا محتمل، لكن السبب الحقيقي أبعد من ذلك بكثير»، عادّاً العملية بمثابة «بيرل هاربر» الروسي، ومعتبراً إياها «كافية لتغيير مسار الحرب ورسم خريطة جديدة لها».
ولفت إلى أنّ «ألمانيا دخلت الحرب ببيعها صواريخ إلى أوكرانيا الأسبوع الماضي بـ7 مليارات دولار. وهذا مؤشّر خطير إلى أنّ الحرب بين روسيا وألمانيا ستكون محتملة. فبرلين تريد الانتقام من هزيمتها أمام روسيا في الحرب العالمية الثانية، ولندن تدفع بالحرب إلى الأمام على خلفية عداوتها التاريخية لموسكو». وبحسب الكاتب، فإن لندن وبرلين تريدان «تخريب طاولة السلام الجديدة في قصر دولمه باهتشه في إسطنبول، كما خرّبتاها قبل سنوات»، فيما «زيلينسكي ليس سوى أداة بيد أوروبا التي تريد إضعاف روسيا والوصول إلى ثرواتها».
وإذ ذكّر بأنّ روسيا هدّدت باستخدام النووي، اعتبر أنّ «أوروبا تريد دفع موسكو إلى ارتكاب هذا الخطأ»، في حين أنّ إسرائيل «ستُسرّ أيضاً باستخدام روسيا للأسلحة النووية، لأنّها تريد مبرّراً لاستخدامها في غزة». وانتهى الكاتب إلى القول إنّ «الدول التي زوّدت كييف بالأسلحة التي تضرب موسكو والعمق الروسي، عليها أن تتحضّر ليوم فيه تُضرب برلين ولندن. وكلّ جهود السلام التي تبذل الآن هي فقط لتأخير هذه النتيجة».