كل العالم يبحث عن “اليوم التالي” لغزة والضفة والقدس الشرقية بينما سلطته لا تزال تملي شروطاً قبل أن تفرض نفسها

قال أبو مازن إنه يرفض العودة إلى غزة على ظهر الدبابة الإسرائيلية (أ ف ب)

قيض للقضية الفلسطينية رجل يعتمر الكوفية اسمه محمد عبدالرحمن بن عبدالرؤوف بن عرفات القدوة الحسيني، والده من غزة  دار حول العالم وأصاب أنظمة كثيرة بالدوار، قبل أن يعود مرة جديدة إلى قطاع غزة رئيساً للسلطة الفلسطينية عام 1994، بعد 27 سنة من التغريبة الفلسطينية، هذا الاسم الطويل أصبح: ياسر عرفات ، وياسر عرفات تحول إلى كنية “أبو عمار”.

البعد الإسلامي كان واضحاً في “القضية”. من الأسماء الخمسة في الاسم الأصلي، اختار لعائلته (جبل) عرفات. وتيمناً بالصحابي عمار بن ياسر، اختار ياسر. وياسر عرفات، على منوال العرف الأبوي العربي أصبح أبو عمار. مع بداية تلمسه العمل السياسي والنضالي، تحرك أبو عمار ضمن دائرة “الإخوان المسلمين”، خصوصاً بعد أن صادق خليل الوزير المعروف بـ”أبو جهاد”، الذي نشط مع “الإخوان” في العمل العسكري السري. ومع ثالثهما صلاح خلف (أبو إياد) أسسوا حركة “فتح”، إيحاء إسلامي آخر. والمفترض أن “فتح” اختصار لعبارة حركة تحرير فلسطين. لا بأس إذا جاءت الحروف مقلوبة، فلاحقاً ستشهد “الحركة” تقلبات كثيرة. سيخف الوهج “الإخواني” في “فتح” لمصلحة خطاب أكثر علمانية، ليعود الصدام مجدداً بدءاً من الثمانينيات مع الحركة الإخوانية المستجدة “حماس”.

“اليوم التالي” لفلسطين

مع ياسر عرفات وغيره من قادة الحركات والفصائل، سيطرت في فترة الستينيات والسبعينيات فكرة مجنونة في غاية الانحراف السياسي مؤداها أن طريق فلسطين تمر بتغيير الأنظمة العربية الرجعية. طالبوا بـ”تأميم عربي شامل”، النفط لكل العرب، المال لكل العرب. وراء هذه الستارة حصلت عمليات إرهاب كثيرة، فلسطينية الصنع وعربية الهدف، وكان ضحاياها شخصيات ومؤسسات وطائرات. توسلت أحياناً الابتزاز المالي بغطاء أيديولوجي وسياسي. ادفعوا أو نخطف ونقتل. نظرية “تغيير الأنظمة” بدأتها “فتح” وأخواتها في الأردن ولبنان. في “خمسية سوداء” بين 1970 و1975 شهدت المملكة الأردنية ولبنان حربين انتهتا فلسطينياً بإبعادين. من الأردن إلى لبنان، ومن لبنان إلى ديار الله الواسعة. قتل آلاف الفلسطينيين حتى اقتنع أبو إياد أن طريق فلسطين لا تمر عبر جونية، المدينة المسيحية في جبل لبنان. وحتى استفاق أبو عمار إلى ضرورة النضال من أجل “القرار الفلسطيني المستقل”، بعد أن أراد حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي ابتلاع القضية.

 

مناسبة هذه المراجعة التاريخية الوجيزة أن القضية الفلسطينية شهدت بفصائلها المتنوعة وعياً يأتي متأخراً عن اللحظة الفاصلة. عن لحظة الفرصة التاريخية. ذهب أبو عمار إلى منطق التسوية قبل أن يقيم جسماً سياسياً سليماً لمنظمة التحرير الفلسطينية. وقع ضحية وجلاداً بين الانقسامات العربية والانقسامات الفلسطينية. وكانت إسرائيل دائماً بالمرصاد، هذا الاعتلال في بنية المقاومة الفلسطينية، أجبره أن يدخل مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 من الباب الخلفي، بواسطة طبيب اسمه حيدر عبدالشافي.

بالتوازي مع ما يحصل اليوم في غزة، لا تزال “منظمة التحرير” الممثل الشرعي للسلطة الفلسطينية، تتحرك ببطء شديد لتستلحق نفسها. كل العالم، ما عدا إسرائيل طبعاً، يريد دوراً لهذه السلطة في إنقاذ غزة من براثن التوحش الإسرائيلي، ومن الانتحار “الحمساوي”. كل العالم يبحث عن “اليوم التالي” لغزة والضفة والقدس الشرقية، بينما سلطة محمود عباس لا تزال تفرض شروطاً قبل أن تفرض نفسها. يقترب عدد القتلى من الأبرياء في غزة والضفة من الـ20 ألفاً، وأصوات القذائف تسمع بقوة قرب مقر الرئيس محمود عباس في رام الله، وعلى رغم ذلك لم تهتز هذه السلطة للدعوة إلى مؤتمر عام يعيد لملمة شتاتها وتشتتها.

إلى أين بعد بيروت؟

في الحساب السياسي، لعنة إسرائيل تبدو أقل وطأة على الفلسطينيين من “لعنة الانقسام الداخلي”. كأن هذه السلطة منظمة “هلال أحمر” سياسية، تحصي القتلى وتتفجع وتهجو التوحش الإسرائيلي، 23 ساعة في اليوم، مقابل ساعة واحدة مخصصة للبحث في المصير. يقول محمود عباس إنه لن يعود إلى غزة على ظهر الدبابة الإسرائيلية. كيف يريد العودة؟ ماذا يفعل ليعود؟ حتى الآن هذه الجملة لا تكملة لها، هذا الشعار الجميل، ليس أجمل مما قاله ياسر عرفات في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1974 في الجمعية العامة للأمم المتحدة “جئتكم حاملاً بندقية الثائر بيد، وغصن الزيتون باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”. عاد عرفات من نيويورك إلى متاهات الصراعات العربية، وانتهى محاصراً في مكتبه عام 2002 وسط حيرة في أوساط أصحاب القرار العالمي. حيرة على شكل سؤال: هل مات عرفات ثائراً أم مريداً للسلام؟

من الواضح أنه لم يذهب في أي من الخيارين إلى النهاية، هذا القفز بين الخيارات لم تستفد منه إسرائيل وحدها. فدول الرفض العربي وإيران عبر “حماس” أطبقت على القرار الفلسطيني تحت شعار مواجهة “النهج العرفاتي”. عام 1982 طردت إسرائيل “منظمة التحرير” من بيروت. وركب مئات المقاتلين الفلسطينيين مع عرفات الباخرة اليونانية “أتلانتس” إلى تونس. سئل عرفات في تلك الساعة العصيبة “إلى أين بعد بيروت”؟ فكان الجواب الجميل “إلى فلسطين”.

من بوابة غزة عاد أبو عمار إلى فلسطين بعد 12 سنة على الوعد. أبو مازن الرافض للعودة لغزة على ظهر الدبابة الإسرائيلية لربما يبحث عن العودة بحراً على ظهر باخرة يونانية أخرى. إلى ذلك الحين يعيش الفلسطينيون مأساة يونانية فظيعة.