تُعدّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا محور اهتمام إقليمي ودولي متزايد، ليس فقط لأسباب سياسية، بل أيضًا بسبب ثرواتها الطبيعية، وعلى رأسها الغاز. فقد أصبحت هذه الثروات عنصرًا أساسيًا في رسم الخريطة الاقتصادية الجديدة لشرق المتوسط، بخاصة بعدما قدّرت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية أن حوضه الشرقي يحتوي على نحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. وتبني هذه الثروات المتعلقة بالغاز شراكات استراتيجية تتجاوز حدود السياسة التقليدية بين دول المتوسط.
في إطار تنويع مصادر الطاقة خصوصاً بعد أزمة الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط OPEC عام 1973، أصبح شرق المتوسط مركز جذب استثماري لشركات الطاقة الكبرى حول العالم. وتنشط شرق المتوسط شركات عملاقة مثل “إكسون موبيل” و”شيفرون” الأميركيتين، إلى جانب “قطر للطاقة”. كذلك، تبرز شركات أوروبية رائدة مثل “توتال إنرجي” الفرنسية و”إيني” الإيطالية. وقد دخلت أيضًا شركات متوسطة الحجم إلى السوق، مثل “Energean” اليونانية-البريطانية، التي توسّع عملياتها تدريجيًا في حقول عدة. أما المستجد البارز في المشهد، فهو دخول “شركة النفط الحكومية لجمهورية أذربيجان” المعروفة بإسم “سوكار” إلى السوق الإسرائيلية بالشراكة مع “بريتيش بتروليوم” البريطانية. وغالباً ما تُبرم الشركات الوطنية الصغيرة، التي تنشط في مصر وإسرائيل، شراكات مع شركات عالمية.
“تُعدّ إسرائيل اللاعب الأقوى في معادلة الغاز في شرق المتوسط، لا سيما بعد سلسلة من الاكتشافات مثل حقلي تمار وليفياثان، التي حوّلتها من مستوردة إلى مصدرة رئيسية للغاز”، بحسب ما قالته خبيرة النفط والغاز لوري هايتايان لـ “درج”. وتُصدّر إسرائيل حاليًا الغاز إلى الأردن، وتساهم في تغطية جزء كبير من الطلب المتزايد في مصر. “غير أن تصريف هذا الغاز إلى الأسواق العالمية يتطلّب نقله عبر الأنابيب إلى محطات تسييل الغاز الطبيعي (Liquefied Natural Gas LNG) في مصر، حيث يُحوَّل إلى غاز مسال تمهيدًا لتصديره خارج المنطقة”، بحسب هايتايان. لكن مع تراجع الإنتاج المصري المحلي وارتفاع الطلب الداخلي، بدأت مصر تستهلك الجزء الأكبر من الغاز الذي يصلها، ما “فرض تحديات على قدرة إسرائيل على التوسع في التصدير الخارجي، بخاصة في ظل محدودية بنيتها التحتية”، أضافت هايتايان.
شكّل ضمان أمن إسرائيل الطاقي أولوية محورية في تحرّكات المبعوث الأميركي السابق آموس هوكستين، الذي سعى إلى حماية المصالح الإسرائيلية ضمن منظومة الطاقة الإقليمية والدولية. وضع هوكستين ملف الغاز في صلب رؤيته لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من خلال ربط مشاريع الطاقة في المنطقة بإمكانية تحقيق النمو الاقتصادي للفلسطينيين، معتبرًا أن التنمية الاقتصادية يمكن أن تشكّل مدخلًا لتخفيف حدة الصراعات. “وفيما منعت إسرائيل الفلسطينيين من استثمار حقل “غزة مارين”، الذي اكتشفته شركة “بريتيش بتروليوم” عام 2000، بذريعة سيطرة حركة حماس على القطاع، عمل هوكستين على بناء شبكة مصالح مترابطة في شرق المتوسط، بهدف تقليص فرص اندلاع النزاعات وتعزيز مناخ التعاون الإقليمي”. وبعد اندلاع حرب 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، توقفت المساعي لتطوير حقل “غزة مارين”، على رغم أن إسرائيل كانت منحت موافقتها الأولية على المشروع في حزيران/ يونيو من العام نفسه، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية ومصر.
دور أساسي لدمشق
أمام هذا الواقع، برزت الحاجة إلى مسارات بديلة لتوزيع الغاز، خصوصًا في ظل التحديات المصرية، ما يعيد طرح سوريا كممر محوري محتمَل لصادرات الغاز من إسرائيل وشرق المتوسط نحو أوروبا، سواء عبر أنابيب برية أو شبكة لوجستية إقليمية جديدة.
قبل اندلاع الحرب الأهلية في عام 2012، كانت سوريا تضخ نحو 400,000 برميل نفط يومياً، وما يقارب 316 مليون قدم مكعّب غاز يومياً، وفقاً لـ إدارة معلومات الطاقة الأميركية. لكن مع بداية الحرب، انخفض إنتاج الغاز الطبيعي من 8.7 مليار متر مكعب إلى 3 مليارات متر مكعب في عام 2023، وفقاً لتقديرات بي بي والمعهد الدولي للطاقة. وأُقصيت سوريا من قطاع النفط والغاز، منتقلةً من دولة منتجة ومصدّرة إلى دولة مستوردة تعتمد على الإمدادات الإيرانية، نتيجة العقوبات والحرب.
لكن، “غيّر لقاء الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والسوري الانتقالي أحمد الشرع ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط”، بحسب نيل كويليام، زميل مشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد “تشاذام هاوس البريطاني”. ويعتبر لقاء الرئيسين بمثابة تتويج للتحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط ودعماً بارزاً لعودة سوريا إلى النظام العالمي. وهذا ما أكدته خبيرة النفط والغاز لوري هايتايان لـ “درج”، إذ قالت إن “سوريا تمتلك قطاع نفط وغاز بريّاً معروفاً، لكنه بقي قبل 2011 مغلقاً جزئياً بفعل سياسات اشتراكية وقيود على مشاركة الشركات العالمية، ثم عانت بنيته التحتية من الإهمال بعد اندلاع الحرب. وإذا رفعت العقوبات عن الشركات، ستتدفق كبرى الشركات لاستثمار ميداني فوري في حقول النفط والغاز البرية وتحديثها”.
ومع بدء جولته على عدد من الدول الخليجية ، قال ترامب خلال منتدى استثماري في الرياض: “سأصدر أمراً بوقف العقوبات على سوريا لمنحهم فرصة للعظمة”. وبينما دعا الرئيس الأميركي نظيره السوري إلى التوقيع على اتفاقيات أبراهام مع إسرائيل، وجه الأخير دعوة إلى الشركات الأميركية للاستثمار في قطاع النفط والغاز في سوريا.
وعقد وزير الطاقة السوري محمد البشير اجتماعاً مع وفد من شركة أميركية خاصة لمناقشة آفاق التعاون في التنقيب عن الغاز وتطوير البنى التحتية. وأكد البشير أن الحكومة السورية تعمل على خلق بيئة قانونية واستثمارية ملائمة لتشجيع دخول الشركات الأجنبية إلى السوق السورية، بخاصة في مجالات الطاقة والنقل والبنية التحتية للمياه. كما عرض البشير مع وفد استثماري تركي الفرص المتاحة للتعاون مع بلاده في قطاع النفط والغاز. ويمكن لسوريا أن تجذب الاستثمارات من خلال تسريع تقييم قدراتها في مياهها الإقليمية. في هذا الإطار، “تولي تركيا – بصفتها الراعية الثانية لسوريا – اهتماماً خاصّاً بالاكتشافات الجديدة، إذ تسعى الى تنويع مصادرها الغازية عبر حلفاء في شرق المتوسط. ولهذا، قد تدفع أنقرة شركات تركية وأجنبية إلى إجراء عمليات مسح وحفر في البحر المتوسط، بما يشكل مصلحة مشتركة لدعم قطاع الغاز السوري وتعزيز أمن الطاقة التركي”، وفقاً لـ هايتايان.
وقدم الرئيس التنفيذي لشركة أرغنت للغاز الطبيعي المسال، جوناثان باس، خطة استراتيجية لإنعاش وتطوير قطاع النفط والغاز السوري الى الرئيسين ترامب والشرع، التي بموجبها سيتم تأسيس شركة “الطاقة السورية الاميركية” (SyriUS Energy). وتركز هذه الخطة على شعار “سوريا أولاً” أو “اجعل سوريا عظيمة مرة أخرى”، والتكامل مع الدول المجاورة في البنية التحتية للطاقة، مثل خطوط أنابيب الغاز والنفط، كأداة لتعزيز الدبلوماسية الاقتصادية، وفقاً لـ CNBC.
وبعد أقل من أسبوع على إعلان ترامب، وافق الاتحاد الأوروبي في 20 أيار/ مايو 2025 على رفع العقوبات عن سوريا التي فرضها بعد القمع الدموي الذي مارسه نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد ضد المتظاهرين السوريين عام 2011. وشملت هذه العقوبات قيوداً واسعة على قطاعات أساسية مثل المالية والتجارة والنقل والطاقة. وتتابع هايتايان ” كما نرى لدى سوريا الكثير من الدوافع للانطلاق”. ويبرز دور الدول الخليجية في انطلاقة سوريا في موضوع الطاقات الجديدة، على رأسها الهيدروجين، الذي تتطلع لتطويره. أخيرًا، انعقدت في برلين، مؤتمرات ناقشت نقل الهيدروجين لاستخدامه في أوروبا. ووفقاً لـ هايتايان، “أكد المشاركون أن دراساتهم أظهرت أن شحن الهيدروجين من الخليج إلى أوروبا سيكون أقل كلفة إذا تم عبر شبكة أنابيب تمرّ في سوريا”. وتابعت هايتايان أنه ” إذا تمّ إبرام اتفاقيات اقتصادية حول هذا المشروع، فسيمنح ذلك سوريا دفعة كبيرة للانخراط في سياسة التشبيك الاقتصادي الإقليمي، وبذلك تستعيد سوريا دورها الفاعل في المنطقة”.
إقرأوا أيضاً:
“أنبوب الغاز” القطري: المشروع الذي حمّله النظام السوري مسؤوليّة “الثورة”!
“إشعال السماء”: حرق الغاز في مصر …الثروة المهدورة والتلوث المتصاعد
في ظل الصراع على غاز المتوسط: صراع على مقاعد بلديّة واختياريّة في لبنان
ورد في البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام أنّها ستستأنف، ضمن قطاع الطاقة، عمليات التنقيب عن النفط والغاز، غير أنّ تضمّنه بند “مجابهة المخاطر الناجمة عن اضطراب المناخ” يكشف عن تضاربٍ بين التوجهات البيئية والسياسات الاقتصادية. وفي مقابلة مع موقع “درج” أوضحت وزيرة البيئة تمارة الزين أن “لبنان ضحية التغير المناخي، إذ إنه مسؤول عن 0.07 في المئة فقط من الانبعاثات العالمية”. وحذرت الوزيرة الزين من تشدد المواقف البيئية على حساب الاقتصاد، قائلة: “التنمية لا تتحقق من دون اقتصاد قوي، لذا يجب أن تكون مقاربتنا واقعية، فلا يجوز أن نخنق اقتصادنا لتلبية التزامات لا تلتزم بها الدول الكبرى”.
في هذا السياق، قالت هايتايان لـ “درج” إنه “في العادة، تحدد توجهات الحكومات بوضوح وتترجم إلى تحالفات استراتيجية وبرامج عمل ملموسة. أما في لبنان، فتُعقد المشاورات بغضّ النظر عن الانتماءات، ويُكتفى بعبارات عامة في البيان الوزاري من دون خطط تنفيذية واضحة، بحيث تتعارض بنود تطوير قطاع النفط والغاز مع الالتزام بمكافحة تغيّر المناخ، ويغيب عنها جدول زمني ورؤية شاملة، في حين يحتاج الاقتصاد اللبناني إلى إصلاحات جوهرية”.
فيما تظهر قدرة سوريا على النهوض بقطاع الغاز، وتعزيز إسرائيل دورها كقوة اقتصادية في شرق المتوسط، تزداد مخاوف تضييع لبنان فرصته في دخول خريطة الغاز الإقليمية، ما لم تسرّع وتيرة العمل الجدية. في هذا السياق، تقول خبيرة النفط والغاز لوري هايتايان لموقع “درج”، إن النهج المعتمد غير مجدٍ على الإطلاق، فلا يجوز أن نبرم عقداً مع شركة، ثم ننتظر خمس سنوات قبل التعاقد مع أخرى، أو أن نحفر بئراً واحدة ثم نجمّد الحفر لثلاث أو أربع سنوات كما حصل منذ عام 2020”.
يغيب النقاش الجدي في لبنان حول مستقبل قطاع النفط والغاز. “فبين الانقسام حول الاعتماد على الوقود الأحفوري أو الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، يبقى الجدل محصورًا في قضايا داخلية مثل نزع السلاح أو الصراعات المحلية بين البلديات والمخاتير”، وفقاً لما قالته خبيرة النفط والغاز لوري هايتايان لـ “درج”. ويُساهم غياب رؤية واضحة تُطرح أمام الشركات الراغبة في الاستثمار، في تراجع لبنان أكثر عن خريطة الاستثمارات في شرق المتوسط.
من المقرّر انطلاق الجولة الثالثة من تراخيص التنقيب عن الغاز في لبنان بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، لتتبيّن رغبة الشركات في الاستثمار في هذا القطاع. ومع تسهيلات واسعة تُمنح لسوريا، والسعي الى ربط منطقة الشرق الأوسط ببعضها ثم بالهند وآسيا، يتعيّن على لبنان تحديد موقعه بسرعة. في هذا السياق تحذّر لوري هايتايان: “لا يجوز إضاعة الفرصة بين القدرة الاقتصادية السورية المتنامية والاقتصاد الإسرائيلي القوي”. وتضيف: “على الدولة اللبنانية أن تضع أهدافها لتطوير قطاع الغاز ضمن جدول زمني واضح؛ فإذا لم تتحقّق النتائج المرجوة خلال الفترة المحدّدة، يجب حسم الأمر وإغلاق الملف”.
نص قانون موارد النفط البحرية على أنّه لا يجوز إبرام اتفاقيات التنقيب والإنتاج إلا مع شركات مساهمة مُسبقة التأهيل. وفي إطار الجولة الأولى من الترخيص، أُجريت في 2013 جولة تأهيل مُسبَق للشركات بناءً على معايير قانونية وتقنية ومالية وجودة وصحة وسلامة البيئة (QHSE)، فتقدّمت 52 شركة بطلبات تأهيل، نجحت منها 46 شركة: 12 منها كحاملة للحقّ ومشغلة، و34 كحاملة للحقّ غير مشغلة. وكان النظام حينها يقضي بتشكيل تحالف يضم شركتين مشغّلتين اثنتين وشركة غير مشغّلة. لكن في العام 2017، تغيّرالنظام بهدف تسريع الإجراءات، فأصبحت الشركات تقدّم عروضها أولاً، لتُجرى بعدها مرحلة الاختيار الأولي (Pre-selection)، وإذا استوفت المعايير المطلوبة، يتم الانتقال إلى تقييم العروض المالية والتقنية.
“ولا تزال هوية الشركات التي سيتم اختيارها غير معروفة، إذ قد يُعتمد النظام الأخير في جولة التراخيص الثالثة”، بحسب ما أوضحت الخبيرة لوري هايتايان، التي أشارت إلى أن “البلوكات الحدودية، وتحديدًا البلوكات 8 و9 و10، تخضع لمعايير خاصة وفقاً لاتفاق ترسيم الحدود البحرية، فلا يجوز أن تكون الشركات المتقدمة لبنانية أو إسرائيلية”.
هل سيشكّل غاز المتوسط مدخلاً لتطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل؟
في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وقّع لبنان، بوساطة الولايات المتحدة، اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، خلال مراسم في موقع قوات الطوارئ الدولية في الناقورة جنوب البلاد. ووفقاً لوكالة “رويترز”، علّق رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يائير لابيد على اتفاق الترسيم قائلاً إن الصفقة كانت “إنجازاً عظيماً” “وأسفرت عن اعتراف لبنان بحكم الواقع بإسرائيل”. وبالفعل، شكّلت هذه الاتفاقية اعترافاً ضمنياً بوجود إسرائيل عبر القدرة المعاهداتية، إذ تنصّ المادة 6 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات على أن “لكل دولة القدرة على إبرام المعاهدات”، وهو مبدأ يقرّ ضمنياً بكيان الدولة المتعاقدة وسيادتها، إذ لا يتمتع كيان غير معترف به عالمياً بإمكانية توقيع أو إبرام معاهدات دولية ملزمة.
“اعتمدت الدولة مقاربة براغماتية في ترسيم الحدود البحرية، فلو لم نكن دولة تعترف بإسرائيل لما كان من المفترض إبرام أي اتفاق لترسيم الحدود البحرية معها، إذ تُعتبر تلك المياه جزءاً من حدود فلسطين وكان يجب عليها أولاً التفاوض مع القيادة الفلسطينية بشأنها”، تقول لوري هايتايان لـ “درج”.
في ظلّ التطوّرات الاقتصادية والتحوّلات السياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، يُطرح السؤال: “هل يمكن أن يشكل ربط لبنان باتفاقات اقتصادية أوسع على المستوى الإقليمي، حماية أكثر فاعلية؟ وأين موقع لبنان من التحالفات والشراكات الاقتصادية التي تتبلور في شرق المتوسط؟”، وفقاً لـ هايتايان.