…
أزمة الثقة القائمة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صارت على لسان الجميع في تل أبيب وعواصم العالم أجمع. يبدو أنّ هذه الأزمة آيلة إلى انفكاك بين الرجلين المتباعدين في التوجّهات الاستراتيجيّة وفي طريقة مقاربة العديد من الملفّات، ومن أهمّها الملفّ النووي الإيراني والحرب في غزّة والتطبيع مع المملكة العربية السعودية.
كيف يبدو مشهد الجدال القائم في هذه المسألة من وجهة نظر معهد دراسات الأمن القومي الذي نشر مقالة لشمعون شتاين بعنوان إسرائيل – الولايات المتّحدة: من “علاقات استثنائيّة” إلى “علاقات”؟
تزداد المخاوف في إسرائيل من أن تؤدّي أزمة الثقة هذه إلى انفكاك العلاقات الاستثنائية بين البلدين، وأن تفقد إسرائيل تحالفاتها الاستراتيجيّة مع واشنطن وتتراجع مكانتها في السياسة الخارجية الأميركية. تتجادل النخب الإسرائيلية هذه الأيّام في أسباب تردّي العلاقات بين ترامب ونتنياهو وتداعياتها على إسرائيل، التي تتبنّى منذ الستّينيّات في نظريّتها للأمن القومي الاعتماد على القوّة العظمى الولايات المتّحدة الأميركية.
لم يتأخّر نتنياهو كعادته في تحميل المسؤولية عن هذه الأزمة إلى مساعديه، إذ اتّهم صديقه رون ديرمر، الذي عهد إليه إدارة العلاقات مع إدارة ترامب، بعدم إدراكه للتحوّلات التي تجري في هذه الإدارة، وإصراره على أنّ ترامب لن يتخلّى عن دعم الحكومة الإسرائيلية في الملفّات كافّة.
عناصر العلاقة الاستثنائيّة بين أميركا وإسرائيل
ينطلق شمعون شتاين في مقالته من التغيّرات الدراماتيكية التي تجري في الساحتين الدولية والإقليمية وفي الداخل الأميركي، ليطرح ثلاثة أسئلة مهمّة هي: هل يمكن أن تساهم هذه التحوّلات في إعادة تشكيل طابع العلاقات الإسرائيلية – الأميركية؟ وهل ما كان قائماً سيظلّ موجوداً؟ وهل يظلّ رصيد إسرائيل يتفوّق على العبء الذي تشكّله على الولايات المتّحدة الأميركية؟
في إسرائيل، يُلاحَظ مسار مشابه يهدّد بتقويض أسس الديمقراطية، في اتّجاه مشابه لما يحدث في الولايات المتّحدة
يركّز الكاتب في إجابته على هذه الأسئلة على تآكل عناصر “العلاقة الاستثنائية” بين البلدين، بما في ذلك الشراكات الإستراتيجية والتحالفات الأمنيّة، وكذلك الرابط العاطفي الذي يجمع بين المجتمع اليهودي الأميركي وإسرائيل.
يرى أنّ هذه العناصر لم تعُد بديهيّة كما كانت في الماضي. وينطلق الكاتب من فرضيّة تسود في إسرائيل في ما يتعلّق بالعلاقات مع الولايات المتّحدة، ومفادها أنّ “ما كان بين البلدين هو ما سيكون”، ولذلك “يتكوّن انطباع فحواه أنّ كلّاً من القيادة والجمهور يفترض أنّ التحوّلات الجيوسياسية أو السياسية الداخلية لا تملك القدرة على تغيير طبيعة العلاقات بين الدولتين. وهكذا يمكن لإسرائيل أن تستمرّ في تحدّي الولايات المتّحدة، بل والإضرار بمصالحها في الشرق الأوسط، من دون أن تتخلّى الإدارة الأميركية عن دعمها المبدئيّ لها”. يحلّل الكاتب في مقالته الركائز الثلاث التي تميّز العلاقات بين البلدين، وهي:
– القيم المشتركة، وفهم الولايات المتّحدة لذاتها أنّها أمّة ذات رسالة عالميّة تسعى للخير و”جعل العالم آمناً للديمقراطية”، كما قال الرئيس وودرو ويلسون.
– المصالح المشتركة، التي تشكّلت خلال فترة الحرب الباردة والصراع بين الكتلتين الغربية والشرقية، واستمرّت هذه المصالح بعد سقوط الاتّحاد السوفيتي وقيام تهديدات مشتركة في الشرق الأوسط.
– الجالية اليهودية في الولايات المتّحدة، التي يُنظر إليها كجسر بين المجتمعَين والدولتَين.
الركائز تتصدّع
يرى الكاتب أنّ ركائز العلاقات بين إسرائيل والولايات المتّحدة الأميركية تشهد تصدّعات، بعضها ناجم عن سياسات إسرائيل نفسها، وأُخرى هي نتيجة عمليّات داخلية أميركية وعالميّة تُلقي بظلالها على العلاقات الثنائية.
في ما يتعلّق بانهيار نظام القيم المشترك، يرى أنّ إدارة ترامب بعكس الإدارات الأميركية السابقة “تتّجه إلى التخلّي عن النظام الليبرالي، والتشكّك في أهمّية التحالفات الدولية، ورفْع شعار “أميركا أوّلاً”، وفي الوقت ذاته “ترامب أوّلاً”. وفي إسرائيل، يُلاحَظ مسار مشابه يهدّد بتقويض أسس الديمقراطية، في اتّجاه مشابه لما يحدث في الولايات المتّحدة”.
أزمة الثقة القائمة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صارت على لسان الجميع في تل أبيب وعواصم العالم أجمع
في موضوع المصالح المشتركة يعتقد شتاين أنّ الولايات المتّحدة الأميركية تنظر إلى إيران والميليشيات المدعومة منها في المنطقة على أنّها تمثّل تهديداً غير مباشر لها، في حين تنظر إسرائيل إلى إيران على أنّها تمثّل تهديداً وجوديّاً لها.
يعتقد أيضاً أنّ الحرب المستمرّة في غزّة ورفض نتنياهو لحلّ الدولتين يعيقان خطط ترامب لإعادة تشكيل الشرق الأوسط والتوسّع في اتّفاقات أبراهام وبناء ائتلاف من حلفاء أميركا في المنطقة لمواجهة إيران وروسيا والصين.
إسرائيل
أمّا في موضوع المتغيّرات التي تصيب دور الجالية اليهودية في أميركا والموقف من إسرائيل، فيشير الكاتب إلى أنّ “تحوُّل إسرائيل إلى قضيّة خلافية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أميركا، أثار انقسامات داخل الجالية اليهوديّة نفسها التي تواجه اليوم ضرورة التصدّي لتصاعد معاداة الساميّة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) واندلاع الحرب في قطاع غزّة، في ظلّ اتّجاه مقلق يتمثّل في تزايد انكفاء الجيل الشابّ في الجالية عن دعم إسرائيل”.
مكانة السّعوديّة تضرب مكانة إسرائيل
إنّ أهمّ ما أشار إليه الكاتب في حديثه عن تصدّع ركائز العلاقات بين البلدين، هي المكانة المحوريّة للسعودية في سياسة ترامب في الشرق الأوسط التي يمكن برأيه أن تؤدّي إلى تآكل مكانة إسرائيل بصفتها الحليف الأهمّ في المنطقة.
تزداد المخاوف في إسرائيل من أن تؤدّي أزمة الثقة هذه إلى انفكاك العلاقات الاستثنائية بين البلدين، وأن تفقد إسرائيل تحالفاتها الاستراتيجيّة مع واشنطن
يضيف الكاتب أنّه إذا تعمّدت إسرائيل إعاقته عن إنهاء الحروب، الذي هو وسيلة تسهّل عليه دفع الصفقات الاقتصادية، فربّما يُقرّر ببساطة تركها وشأنها. وفي ضوء هذه التحوّلات يختم بالقول إنّ “التآكل الواضح في الركائز الثلاث للعلاقات “الاستثنائية”، أي القيم المشتركة والمصالح المتبادلة والاتّجاهات السياسية داخل الجالية اليهودية الأميركية، لا ينبئ بخير”.
في الخلاصة، يبدو أنّ الفرضيّات الإسرائيلية بأنّ “ما كان بين إسرائيل وأميركا هو ما سيكون”، وأنّ إسرائيل تفعل ما تشاء داخليّاً وإقليميّاً، وما من خيار لدى الولايات المتّحدة الأميركية سوى الاستمرار بدعمها، صارت موضع تشكُّك كبير بين النخب في تل أبيب، قبل أن تتحوّل إلى أوهام في حسابات ترامب الذي يقوم باستكمال استبعاد أشدّ المؤيّدين لإسرائيل من فريق عمله، وينفّذ أجندته بمعزل عن الأجندة الإسرائيلية.
إقرأ أيضاً: الأمن القوميّ الإسرائيليّ: تغيير النّظام الإيرانيّ هو الحلّ
المنطقة على أعتاب تحوّلات جيوسياسية كبيرة، ولحسن الحظّ، نتنياهو ومساعدوه لم يقرؤوا هذه التحوّلات، واعتقدوا أنّ ترامب سيمنحهم شيكاً على بياض ليفعلوا ما يريدون.