لا يمكن لأحد أن ينكر بأن الكرد في سوريا، خلال العقود الماضية، كانوا من بين أكثر مكونات المجتمع السوري تهميشاً وتعرضاً للإنكار السياسي والثقافي، بدءاً من حرمانهم من أبسط حقوقهم اللغوية والانسانية ، وصولاً إلى مشاريع تغيير ديمغرافي، مثل “الحزام العربي” الذي نفذه نظام البعث في الجزيرة السورية ، وقد أدّى ذلك إلى تشكّل خطاب سياسي كردي قائم على سردية المظلومية والحق التاريخي.
إلا أن المتغيرات التي طرأت على سوريا بعد الثورة وسقوط النظام الاسدي ، تفرض مراجعة جذرية لهذا الخطاب. فالسؤال المطروح اليوم: هل يكفي أن يواصل الكرد الحديث عن المظلومية في وقت تُرسم فيه ملامح سوريا جديدة؟ وهل من المجدي البقاء في موقع ردّ الفعل بينما هناك حوارات إقليمية ودولية جدّية تسعى لبناء دولة وطنية ديمقراطية شاملة؟
ورغم أن سردية المظلومية الكردية لا تزال حقيقية وموثّقة، إلا أن التمسك بها دون تطويرها إلى مشروع وطني أشمل لم يعد مقنعاً، لا داخلياً ولا خارجياً. فالعالم لم يعد يكتفي بالحديث عن المعاناة، بل يبحث عمن يمتلك رؤية للحل، وقدرة على المساهمة الإيجابية في بناء الإستقرار.
إن الحراك السياسي الكردي اليوم، وخاصة ضمن القوى المؤمنة بالديمقراطية والعدالة، والمساواة ،كتيار مستقبل كردستان سوريا ، مطالب بالانتقال من التركيز على الحقوق الكردية فقط، إلى الانخراط في مشروع بناء الدولة السورية المستقبلية، لأن اختزال الدور الكردي في خانة المطالب القومية يحوّله إلى ملحق بدلاً من أن يكون ركيزة أساسية في البناء .
يُخطئ من يظن أن الكرد مكون طارئ الحضور في سوريا. فهم جزء أصيل من تاريخها السياسي والاجتماعي. شاركوا في معارك الاستقلال، وأسهموا في الحراك السياسي والثقافي منذ مطلع القرن العشرين، وقدموا أسماء لامعة في النضال الديمقراطي، من أمثال ، أوصمان صبري ، نور الدين ظاظا ، جكرخوين ، مشعل التمو وغيرهم ، من هنا، فإن الدعوة إلى تجاوز خطاب المظلومية لا يعني إنكار الحق الكردي ، بل ترجمة هذا الحق إلى شراكة حقيقية داخل مشروع وطني شامل، حيث يكون الكرد فيه شركاء في صناعة القرار، وليس أصحاب مطالب فقط
نعيش اليوم في سوريا مرحلة انتقالية لا تزال هشة، لكنها تحمل في طياتها فرصة تاريخية لإعادة تشكيل الدولة على أسس جديدة. فقد انهار النظام الأسدي ولم تعد تمتلك السلطة أدوات القمع المتوحشة ، وهناك مبادرات إقليمية ودولية، ومساعٍ لتفعيل القرار 2254، ومحاولات لتأسيس نظام لا مركزي عادل يضمن حقوق جميع السوريين .
ضمن هذه اللحظة، يجب أن يكون للكرد خطاب جديد يتجاوز مطلب الاعتراف بالهوية فقط، إلى مطلب صياغة الدولة نفسها. دولة لكل مكوناتها، تضمن حقوق الكرد، ولكنها أيضاً تضمن حقوق الجميع، وتعتمد المواطنة المتساوية قاعدة للانتماء، بعيداً عن العرق أو الدين أو الطائفة.
إن تجاوز خطاب المظلومية لا يعني التنكّر للهويات الفرعية ، بل الانتقال بهذا الخطاب من خانة الرفض إلى خانة البناء. فمن المهم أن يكون للكرد مشروع سياسي واضح المعالم حول شكل الدولة، حدود اللامركزية، العلاقة بين المكونات، العدالة الانتقالية، وقضايا الجيش والتعليم والإدارة والاقتصاد .
هذا الانتقال يتطلب أيضاً تحالفات جديدة، عابرة للهويات القومية والمناطق الجغرافية ، وقادرة على تشكيل كتلة وطنية تضع على الطاولة مشروع الدولة الوطنية الحديثة. لا اعادة الدولة المركزية القمعية كما كانت، ولا بقاء الدولة مقسمة وهشة كما هو الآن ، بل دولة لا مركزية ديمقراطية، تكفل التعددية وتستوعب الجميع.
ربما للمرة الأولى، يجد الكرد أنفسهم في موقع يسمح لهم بالمشاركة في تأسيس مشروع وطني جديد، وليس فقط المطالبة بحقوق تاريخية ، وهذا يتطلب وعياً سياسياً مختلفاً، يتجاوز ثنائية “نحن والآخر”، ويستبدلها بثنائية “نحن معاً نبني”.
على القوى السياسية الكردية – خاصة الشبابية منها – أن تغادر نهائياً مربع التلقي والانتظار، وأن تدخل في حوارات فكرية ووطنية مع كل مكونات الشعب السوري. فالدولة التي سيبنيها الجميع ستكون حتماً دولة أكثر عدلاً للكرد من دولة تُبنى من دونهم أو على حسابهم
ربما آن الأوان أن يقول الكرد للسوريين:
لسنا فقط أصحاب قضية، بل شركاء في الحل. لسنا فقط ضحايا، بل شركاء في البناء. لسنا فقط قومية تطالب بحقوقها، بل مكون وطني يريد بناء سوريا جديدة يتساوى فيها الجميع.
المرحلة القادمة لن تُقاس بعدد الشعارات، بل بمن يُقدم مشروعاً وطنياً متكاملاً قابلاً للتطبيق. والكرد، بما يحملونه من تاريخ نضالي وخبرة إدارية ومعرفية، هم في موقع يمكّنهم من لعب دور الطليعة لا فقط على المستوى الكردي، بل السوري ككل.
لقد تعب الكرد من الأوجاع ، كما تعب السوريون جميعاً. فلنحوّل هذا التعب إلى فعل سياسي مسؤول، يُسهم في إعادة بناء وطن يُشبهنا جميعاً… وطن لا مركزية فيه ولا تهميش. للكرد كما للعرب، وللسريان كما للتركمان ولباقي مكونات الشعب السوري ، وطن يسير بنا نحو المستقبل بوجوه جميع أبنائه، لا بوجه واحد فقط..!