للصباح سحر خاص مُشتَقّ من سحر الطفولة، حتى في سجن تدمر الرهيب كان أحبَّ صوت إلى نفسي ضجيجُ عصافير الدوري التي تُعلن بداية النهار قبل أن يبدأ. هناك كنّا نستقبل الصباح بآذاننا قبل أن تستقبله أعيننا، ولكن صباح الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 2024، كان بنكهة تفوق قدرة الكلام على الوصف. نكهة تشبه، ولكنها أعمق من تلك التي شعرت بها، في صباح آخر بعيد، حين نقرَ الرقيب باب المهجع في سجن تدمر، وقرأ اسمي بين ثلاثة أسماء للإفراج، بعد عقد ونصف وسنة وثلاثة أيام من الحبس.
في ذاك الصباح التدمري البعيد غمرني شعور فراشة تخرج من الشرنقة، وفي الصباح الفرنسي القريب هذا، استيقظتُ باكراً كالعادة، وقبل أن أبدأ التفاصيل الروتينية للصباح، فتحتُ الموبايل، لأن الأيام القليلة الماضية كان فيها ما يُشير إلى مفاجآت محتملة. بالفعل، ما أن فتحت شاشة الموبايل حتى انفجر في وعيي الخبر كما تنفجر الألعاب النارية المتسلسلة في السماء. صحيح أنه كان للخبر مقدمات، ولكن حين يتحقق الأمر يكون له أثر قوي مهما كان متوقعاً، فضلاً عن أن سرعة تطور الأحداث منذ 27 تشرين الثاني (نوفمبر)، كان يثير الدهشة والقلق معاً. ليس من السهل أن تصدق أن الصراع في سوريا سوف يُحسَم بهذا الشكل وهذه السرعة، ولا سيما أنه استمرّ سنوات طويلة واستقرّ على تقسيم وخطوط تماس شبه ثابتة، لا تعكس فقط توازن قوى داخلي، بل وأيضاً تعكس توافقاً دولياً مستقراً.
كان ردّ فعلي الأول أنني تركت كل شيء واتجهت إلى الصالون لأسترخي على الكنبة، تاركاً شلالات الأضواء الملونة تملأ نفسي. أضواء مبعثرة تنبثق في نفسي من مصدر واحد، هو تلاشي نظام الأسد. أضواء ملونة تتطاير في نفسي، ضوء أناني يقول إنه صار بمقدوري أن أعود إلى قريتي بعد إحدى عشرة سنة، ثم يتسع الضوء ليقول إن السوريين سيعودون إلى بيوتهم وقراهم ومناطقهم التي هُجّروا منها، سيعودون من الخيم ومن المخيمات ومن بلدان اللجوء القريبة والبعيدة. وضوء آخر يقول إن الصراع المسلح انتهى وإن البلاد باتت بلا شبيحة الأسد، فلن ترى بعد اليوم أحداً من شبيحة تلك العائلة يدفعه السأم للوقوف على باب مقهى متأملاً الزبائن باستخفاف واحتقار، بطريقة تجعل الناس يجمدون في أماكنهم كالدجاج الذي يستشعر الخطر. أضواء متلاحقة تُبهر عيني وتهمس في أذني وأنا أسترخي على الكنبة، أُحرر سوريا ذهنياً من نظام الأسد الذي جعل بينها وبين أهلها غربة قاهرة.
مع الأيام بدأ يتكشّف السلوك المُنغلق والأناني للجماعات العسكرية التي دخلت دمشق، وبدأ ترديد عبارة «من يحرر يقرر»، ما يعني أن هذه الجماعات تريد أن تستحوذ معنوياً على كل نضالات وتضحيات السوريين الهائلة للخلاص من نظام الأسد، وأن تعطي نفسها الحق في «تقرير» مستقبل البلاد. الرجل الذي أُوكلت له وزارة الخارجية عقب تحرير دمشق، عبَّرَ عن ذلك بالقول إن الضحية المخطوفة لا يحق لها أن تسأل محررها إلى أين يأخذها، ما يفهم منه أن الأمر ليس تحريراً، إنه بالأحرى تغيير هوية الخاطف. على أي حال، حاولت أن أستوعب كل ذلك على أنه نسخة طبيعية من تعثر البدايات، لا أكثر.
تحطمت الدولة السورية وتبخرت مؤسسات القوة فيها. يحمل هذا خسارة مؤسساتية بلا شك، ولكنه يعطي للسوريين بالمقابل فرصة الانخراط في بناء نظام جديد مختلف، بعد أن عانوا كثيراً وطويلاً من نظام تأسَّسَ على القسر وعلى محورية دور الفرد فيه. كان هذا مَعقِد الأمل، رغم الدراية بالصعوبات الكثيرة، ولكن الأمل راح يتضاءل مع السلبية الواسعة التي أظهرها الشارع المأخوذ بفرحة الخلاص من حكم الأسد، ومع استنكاف غالبية المنشغلين بالشأن العام عن فعل الدور المؤثر لفرض اتجاه تَشارُكي في الحكم، ولمناصرة القيم العامة التي تَحرّك السوريون من أجلها منذ البداية. ما حصل أن الكثيرين منهم ندبوا أنفسهم للدفاع عن «المُحرِّرين» ضد أي احتجاج أو اعتراض على الإجراءات التي تقود إلى بناء نظام مشابه في العمق للنظام السابق. التخوّف والتخويف من عودة النظام السابق بات وسيلة لبناء نظام جديد مشابه له، نظام سوف يجعل المهتمين بالشأن العام ضحايا أو أتباعاً بلا قيمة، على الصورة السابقة نفسها.
اتسعت الخيبة مع بروز وسيطرة ميول طائفية عدوانية وعنيفة ضد العلويين بشكل خاص، ميول مدمرة تدفع حامليها إلى التفاخر بتحقير وإذلال وتهجير وقتل العلويين، وفق سلوك استباحي ُمزوَّد بالعناصر اللازمة لارتكاب المجازر: أولاً القوة المسلّحة للجناة في مقابل مشاريع ضحايا عُزَّل. ثانياً انعدام القيم أو الأخلاق المدنيّة لدى الجناة، ما يجعل الضحايا مجردين من أي اعتبار إنساني سوى كونهم المادة المناسبة لتفريغ رغبة ثأر جبان يقتصُّ من الأهالي العُزَّل، وليس ممن نصب الكمائن وألحق الأذى بعناصر الدولة الوليدة. ثالثاً غياب الدولة بوصفها مؤسسة مسؤولة عن رعاياها، وتملك قوة الحماية. رابعاً غياب دور المجتمع السوري في لجم النزوع الإجرامي الذي استحكمَ بفئة منه، ومن ضمن ذلك الغيابُ المحبطُ لدور المتابعين المهتمين أو مثقفي الشأن العام في مناصرة القيم الإنسانية العامة ورفع الصوت عالياً ضد المجازر. هكذا أسَّسَ النظام لنفسه على مجزرة، أي إنه أسَّسَ لذاته على خلل عميق. لم تُظهر الدولة الوليدة، ولا المجتمع السوري، القوة الكافية لمنع حدوث الخلل، ولا الإرادة الكافية لمعالجته. ظهر أن المجتمع السوري بكل مستوياته لم يستفد من سنوات الجحيم السابقة لمعرفة سبيل الخروج من النفق الطائفي الذي أدخله فيه نظام الأسد.
في الفترة السابقة للمجازر الواسعة التي شهدها الساحل السوري في آذار (مارس) 2025، كنتُ على تواصل دائم مع أهل وأصدقاء علويين في الساحل. على وقع الأخبار اليومية التي تصلهم والفيديوهات المتداولة، ولا سيما من حمص، كان الخوف هو القاسم المشترك بينهم، كان يطل الخوف من أصواتهم حتى حين يحاول أحدهم المداراة والابتعاد عن الحديث عمّا يجري، بروي النكات أو باستحضار الذكريات. يدركون أن الاستهداف طائفي صريح يضعهم جميعاً في خانة الاستهداف. صاحب نكتة من كبار السن قال تعليقاً على قتل أشخاص من معارضي الأسد السابقين ومنهم من قضى سنوات في سجونه: «عمي هدول الجماعة ديمقراطيين بيعاملوا العلويين على قدم المساواة».
كل مُجريات ما بعد سقوط نظام الأسد رأيتها في عيون العلويين من موشور العدوانية الطائفية المنفلتة ضدهم، ولا غرابة، فالأمان هو العنصر الأهم بالنسبة لأي كائن حي. الخوف الثقيل الذي خيّمَ على جميع العلويين بعد تَكاثُر حالات القتل على الهوية، الحالات التي سميت، للتخفيف من صلة الإدارة الجديدة بها، «حالات فردية»، قبل أن تتطور الأمور إلى مجازر على يد قوات تنتمي لها؛ أقول هذا الخوف أعاد إلى ذاكرتي الخوف الذي سبق أن عرفه العلويون في نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي حين برزت في سوريا أعمال قتل طائفي على يد «الطليعة المقاتلة» المُنشقّة عن الإخوان المسلمين في سوريا.
في ذلك الزمن، وكنتُ في المرحلة الإعدادية، منعني الخوف من قضاء أوقات الصيف في حقل التفاح الصغير الخاص بعائلتنا، اعتدت أن أبني فيه كوخاً من أغصان الشجر وأستمتع فيه بعزلتي واستقلاليتي وبقراءة كتب لا علاقة لها بالمنهاج الدراسي. لم يكن الإنترنت قد استعمر حياتنا، كانت الأخبار تقطع المسافات منقولة من فم إلى أذن، وتزرع فينا الخوف. اليوم سيطرَ على المشهد نزوعٌ مُعلَن غايته تحطيم الجماعة العلوية معنوياً، والقتل المباشر على الهوية هو أحد الوسائل، هكذا اتخذ الخوف المحمول على ممارسات استباحية ضد العلويين، أبعاداً قصوى غطت في نفوسهم على الوطن. وبقي موقف الجهات الرسمية في الدولة، التي ظلّت بلا إعلام رسمي، من هذه الممارسات هو الإنكار أو استصغار الوقائع. الرأسمال الذي قال الرئيس الانتقالي إنه أهم ما تملكه الإدارة الجديدة، وهو وحدة الشعب السوري، يتعرض للإتلاف على نحو يوميٍّ وعميق وعلى مرأى من الإدارة نفسها.
ثم بدأ شيء مشابه، وإن كان على نطاق أضيق، مع أبناء الطائفة الدرزية في أماكن تواجدهم في ريف دمشق أو السويداء. وشهدت الشوارع لأول مرة في تاريخ سوريا هتافات صريحة في طائفيتها، وذات منطوق إبادي ضد الدروز وضد العلويين.
اللوحة التي ارتسمت في ذهني أن غالبية السنّة السوريين، ما عدا الكُرد، ينظرون إلى أحمد الشرع، كما نظر العلويون إلى حافظ الأسد، على أنه البطل الذي يُخرجهم من التهميش والظلم. في الحالتين تغيب النظرة الوطنية، وفي الحالتين تتواطأ السلطة مع هذا الغياب للنظرة الوطنية وتُعزّزها. الفارق أن الوزن الغالب للسنة في سوريا يسمح لهم بالتعبير علناً عن نظرتهم، في حين كان العلويون يستترون بلغة وطنية وعلمانية تتعالى على اللغة الطائفية وتستبطنها. فهل نسير إذن على الطريق نفسه مجدداً؟
هكذا، على سفح من الإحباط راحَ فرحي الذي انفجر في تلك الصبيحة يتدحرج، وراح تفاؤلي يتداعى، رغم اجتهاد عقلي في مساندته بالقول إن الأفق لا يزال مفتوحاً، وإن المجتمع السوري لن يسمح بتشكل نظام «أسدي» جديد.