أن تكون امرأة سورية في زمن التحولات الكبرى يعني أن تكون في صراع دائم مع الصور الجاهزة. صور تصنعها السلطة تارّة، والمجتمع تارّة أخرى، وتُصدَّر أنها الحقيقة. في الداخل كما في المنفى، في زمن السلم كما في الحرب، تبقى المرأة السورية عالقة بين ما تفرضه الأدوار النمطية وما تعيشه فعليّاً من تجارب معقّدة، شخصية وجمعية، سياسية واجتماعية، لا تجد دوماً مكاناً لها في السرديات السائدة. حين يُقال “المرأة السورية”، يذهب الذهن غالباً إلى صورة نمطية واحدة، تَغلبُ عليها سماتٌ دينية أو قومية أو طبقية محدّدة، وكأن هذه المرأة كائن أحادي، يجري استدعاؤها رمزيّاً لتكون “أم الشهيد”، “المناضلة”، “المحجّبة”، أو “الضحية”، وكل هذه الصور صحيحة جزئيّاً، لكنها لا تُلخّصها، بل تختزلها.
يبدو أن كل نظام سياسي يحكم سورية يحاول فرض صورة محدّدة للمرأة السورية تتماشى مع رؤيته الأيديولوجية، في محاولة منه لطمس الفسيفساء النسائية السورية الغنية. من صورة المرأة “المتحضّرة” في زمن الأسدين إلى «المرأة المحجّبة السنية” في الحقبة الراهنة، ظل الجسد النسائي ساحة للصراع الرمزي بين السلطة والمجتمع.
في سنوات حكم حافظ الأسد ثم ابنه بشار، كان التناقض واضحاً بين الخطاب العَلماني الظاهري والتحالفات الدينية الباطنية. ففي حين فُرضت صورة المرأة السافرة، الأنيقة، خرّيجة الجامعات الأوروبية (وتمثّلت بشكل مثالي في أسماء الأسد)، كانت الظواهر الدينية تتنامى بقوة، مثل حركة القبيسيات التي ترعرعت في كنف الدولة، بعيداً عن العيون، لكنها لم تُمنع. بل وفرضت أجهزة النظام في الثمانينيات نزع الحجاب في المدارس خلال المواجهات مع جماعة الإخوان المسلمين، لكنها عادت لاحقاً لتتسامح، بل وتحتفي بالخطاب الديني النسائي المحافظ، ضمن حدود الولاء السياسي.
محاولة جديدة لتوحيد صورة المرأة السورية، تمثّلت في نموذج “المرأة المسلمة المحجبة السنّية” صورة معيارية
لم يكن هذا التنوّع في الخطاب والتمثيل الرسمي يُخفي واقعاً أبسط وأصدق على الأرض، فالتنوّع لم يكن اختراعاً حديثاً، بل واقعاً سورياً حيّاً من جبل العرب إلى القامشلي، من إدلب إلى وادي النصارى، كانت المرأة السورية مسلمة ومسيحية ودرزية، سنّية وعلوية، كردية وعربية، متعلّمة وأمية، عاملة وربّة منزل، محجّبة وسافرة. تجلّى هذا التنوع في اللهجات، والأزياء، وأدوار النساء في المجتمع. في بعض القرى، كانت النساء تدير الأراضي الزراعية، وفي المدن تعمل في المحاماة والطب والتعليم. لم يكن هناك قالبٌ واحد، بل عشرات الأشكال الحيّة والمتغيرة.
وعندما انطلقت الثورة السورية، لم تكن النساء على الهامش، بل في القلب. لم تكن الثورة السورية حكراً على صوت أو طائفة أو لباس. كانت النساء في مقدّمة التظاهرات، وكانت شاهدة وشهيدة، قائدة ومغنية، من كل الخلفيات والانتماءات. في درعا، في القامشلي، في دوما، في عامودا، في إدلب، في السويداء… كانت هناك نساء خرجن بأسمائهن الكاملة، وأخريات بقين مجهولات، لكنهن قدن الحراك، وأسندن الميدان، ودفعن الثمن الأكبر.. سقطت شهيدات كثيرات، من طوائف وخلفيات متعددة، كثيرات ممن لا نعرف أسماءهن ولكن نعرف نبضهن. كل واحدة منهن كانت حكاية كاملة، لا تختزل في حجاب أو سفور، ولا في طائفة أو لهجة. بل في موقف، وفي حلم بالحرية. ومن حق هؤلاء النساء أن تبقى أصواتهن جزءاً من الرواية.
لكن مع تغيّر المشهد السوري بعد الحرب، برزت محاولة جديدة لتوحيد صورة المرأة السورية، تمثّلت في نموذج “المرأة المسلمة المحجبة السنّية” صورة معيارية. ولم تأت هذه الصورة من فراغ، بل جرى تركيبها سياسيّاً لتتناسب مع خطابٍ ديني شعبوي يحاول النظام استثماره. وحين ظهرت عقيلة الرئيس الحالي، أثارت ظهوراتها المتكرّرة بلباس محافظ ومظهر تقليدي تعليقاً شائعاً بين الناس: “هذه تشبهنا”، وكأن ما قبلها لم يكن كذلك. وكأننا، نحن النساء السوريات، لم نكن إلا انعكاساً لما يسمح به الحاكم.
تُختزل المرأة السورية في صورة واحدة، يصبح كل ما عداها غريباً، بل مرفوضاً
حتى الرئيس ذاته، في لقاء مع زوجته أمام مجموعة نساء، قدّمها نموذجاً للتضحية والصبر، متحدّثاً عن صعوبة الحياة معها وتنقلهما في عشرات البيوت، بينما كانت أغلب الحاضرات محجّبات، باستثناء واحدة أو اثنتين. هكذا، يتحوّل الجسد الأنثوي مجدّداً إلى منصة رمزية: صبر، تضحية، دعم للرجل، لا شراكة ولا قيادة. تبعت ذلك تصريحاتٌ لشخصياتٍ نسائية قريبة من النظام، مثل عائشة الدبس التي اختزلت دور المرأة في المطبخ وتربية الأولاد، وعبيدة أرناؤوط الذي تحدّث عن “الطبيعة البيولوجية للمرأة”، ليظهر أن النظام يعيد إنتاج سرديات تقليدية، رغم محاولة تزيين المشهد بمشاركة نسائية شكلية.
لا تتعلق المشكلة بالشكل بقدر ما تتعلق بالإقصاء. حين تُختزل المرأة السورية في صورة واحدة، يصبح كل ما عداها غريباً، بل مرفوضاً. توحيد الصورة لا يهدف إلى التقدير، بل إلى السيطرة، فالأنظمة الشمولية لا تحب التعدّد، لأنها لا تحتمله. تحتاج دائماً إلى رمز واحد، أيقونة واحدة، امرأة واحدة، لا صوت خارج الجوقة. وهكذا، يُقصى المختلفون: السافرات، العَلْمانيات، النسويات، النساء من الأقليات، وحتى النساء الثائرات.
أصبح فرض هذه الصورة النمطية الواحدة الممثلة للمرأة السورية اليوم خطراً لا على أداء النساء ومشاركتهن السياسية والمجتمعية، بل على السلم الأهلي، حيث صار التوجّه الشعبوي هو النيل من نساء سافرات وإهانتهن. ودالة الحادثة التي جرت في حلب أخيراً، حين طاردت سيارة فيها عناصر أمن طبيبة سورية وقالوا لها: نحن نقرف من أشكالكم، وسوف نخلص منكم، لتردّ الطبيبة بأنها من “الأقليات” لتحمي نفسها كونها من دون حجاب، وكأن حقّ عدم وضع الحجاب للمسيحيات فقط.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
دلالات