قبل عقدين وأكثر، أصدرت المؤرخة الأمريكية من أصول سورية، ليندا جاكوبس كتابها الشهير «غرباء في الغرب». تناولت فيه حياة المهاجرين السوريين في أحد أحياء مدينة نيويورك، بداية القرن العشرين، الذي عرف باسم حي (سوريا الصغرى). واستطاعت جاكوبس، أو يعقوب بالأحرى، تتبع سيرة أهالي هذه الحي، من خلال المذكرات وأرشيف المهاجرين، ما مكنها من إعادة إحياء تاريخ هذا الحي وأهله، خاصة أن الحي دمر لاحقاً بعيد عام 1946، جراء التغييرات الحضرية في مدينة نيويورك.
المهم في كتاب الغرباء، أنه فتح الباب أمام موجة واسعة من الكتابات الأمريكية عن المهاجرين السوريين. وكان آخر ما صدر في هذا الجانب كتاب غني في طرحه ومراجعه، صدر بعنوان «ما لا يذكر: المنسوجات، وصناعة الملابس، والطبقة العاملة السورية الأمريكية»، من تأليف المؤرخة الأمريكية ستاسي فاهرينتهولد المتخصصة في تاريخ العمال المهاجرين.
يدرس الكتاب صناعة الطبقة العاملة السورية، ويضع عمال النسيج العرب في تاريخ العمل الأمريكي ودراسات الهجرة والدراسات النقدية للرأسمالية. يتتبع تطور صناعات النسيج السورية في أمريكا بدايات القرن العشرين. إذ قام المهاجرون السوريون بتنشيط تجارة النسيج العابرة للحدود الوطنية من خلال عدد من التجار. تتوقف المؤلفة في الفصول الأولى عند رحلة السوريين نهاية القرن التاسع عشر إلى أحد الأحياء في نيويورك، كانوا قد وصلوا بحثا عن عمل، بعدما انهارت الأوضاع الاقتصادية في ولاية سوريا العثمانية، لكنهم لم يتمكنوا من العثور على وظائف أو فرص للعمل في المحال الأمريكية، بسبب عوامل تتعلق باللغة، ولذلك لم يكن أمام هؤلاء سوى أن يصبحوا بائعين متجولين. وهنا بدأت أول أعمال السوريين في المدينة، بعد عقدين تقريبا من وجودهم، وتحديدا عام 1905. اندفع عدد من التجار السوريين القادمين من سوريا، إلى افتتاح عدد من مصانع الألبسة، ما أسس لمرحلة جديدة من تاريخ العمالة السورية في نيويورك، وأمريكا عموما.
مصانع ألبسة سوريا في نيويورك:
أخذ التجار السوريون يستوردون المواد الأولية من دمشق وزحلة، وينقلونها نحو مصانعهم التي افتتحوها في مانهاتن السفلى أو بروكلي في نيويورك. وهناك قام رجال ونساء بخياطة ملابس النوم والملابس الداخلية. بعد ذلك كانت تنقل بضائعهم إلى متاجر المدينة.
يتطرق الكتاب لزاوية نادراً ما تطرق لها أحد، وهي حياة الفتيات العاملات في المصانع السورية في الحي، وهذا الأمر نراه من خلال حدثين أساسيين: الأول، يتعلق بالإضرابات العمالية التي عرفتها أمريكا عام 1919، أي بعد سنة تقريبا من انتهاء الحرب العالمية الأولى، إذ شاركت معظم النساء العاملات السوريات في الإضرابات، التي كانت تدعو إلى تحسين ظروف العمل داخل مصانع المدينة. واللافت في هذا الجانب، هو اهتمام الصحافة الأمريكية بالسيدات السوريات، إذ أخذت تخصص صفحات يومية لتدعو النساء السوريات للمشاركة في الإضرابات، وعلى الرغم من ضغوط التجار السوريين على العمال بعدم المشاركة، التي وصلت أحيانا إلى القيام بتحريض بلطجية على أي عامل او عاملة يرغب في المشاركة، لكن من خلال تتبع المؤلفة ليوميات هذا الإضراب، نرى أن النساء السوريات تحولن إلى عصب حراك العاملات في مدينة نيويورك، وتمكنّ لاحقاً مع باقي عاملات نيويورك من فرض شروطهن الخاصة، المتعلقة بالعمل مثل، الحصول على يوم ونصف إجازة بدلاً من يوم واحد، ورفع الرواتب، وتحميل أصحاب المعامل بعض المصروفات الأخرى.
اضطر أصحاب المعامل السورية إلى تحسين ظروف الحياة داخل المصانع، ورفع أجورهن. ومن الأشياء الطريفة، أن المؤلفة تتبع هنا عالم التسجيلات داخل هذه المصانع، فبسبب الإضرابات العمالية، حاول عدد من التجار ملاطفة العاملات والعمال عموماً، من خلال شراء فونوغراف، ووضعه داخل صالات العمل، وتوفير عدة نسخ من الأقراص التسجيلية، من أجل الترويح عن العمال قليلاً. أخذ العمال من خلال هذا الفونوغراف يستمعون لأغاني الشيخ سلامة حجازي، والتعرف على ما كان يصدر من أغانٍ وموسيقى سورية، وحتى أمريكية. ترصد المؤلفة أيضا قصة فستان الكيمونو، وهو فستان صمم أولاً في اليابان، إلا أنه أصبح الفستان المفضل للسيدات الأمريكيات خلال الحرب العالمية الأولى. اللافت هنا أن اصحاب المعامل السورية، وجراء الطلب على هذا الفستان، اندفعوا لخياطة فستان كيمونو سوري، ونجحوا في إنتاج فستان لا يقل جودة وأناقة عن باقي المصانع. ومع مرور الأيام، أصبح الحي السوري في نيويورك، ومتاجر السوريين، أماكن يزورها الأمريكيون باستمرار لشراء الألبسة والأقمشة والملابس السورية.
الحب والزواج..
وبالعودة لقصة السيدات العاملات في المصانع السورية في نيويورك، تلاحظ المؤلفة أيضا، أن دخول السيدات السوريات إلى سوق العمل، أسس وفتح الأبواب أمام آراء جريئة حول الزواج والحب والعائلة. بعض الفتيات مثلاً وجدن أن الزواج من دون حب لا معنى له، وأنه لا بأس من تأخير سن الزواج. هذه الآراء وغيرها، سرعان ما أدت إلى نشوب نقاشات واسعة في الصحف العربية الأمريكية حول مستقبل العائلة المهاجرة، والأخلاق في الهجرة، ووجد عدد من الكتاب الرجال، أن عمل النساء السوريات في المصانع، أخذ يقوض التقاليد السورية، ترافق ذلك مع محاولات لخلق صورة نمطية عن فتاة المصنع، بوصفها فتاة سيئة السمعة.
على سبيل المثال، هاجم محرر صحيفة «الأخلاق» الصادرة بالعربية في أمريكا يعقوب رفائيل، ميل النساء السوريات الى تأخير الزواج، كما أبدى قلقه من تأثير عمل النساء على قابلياتهن للزواج، وهو ما أثر، حسبما اعتقد، على تقاليد الأسرة المهاجرة، وسمعة السوريين في المجتمع الأمريكي.
ويبدو أن هذه الرود الذكورية، دفعت ببعض الكاتبات السوريات، إلى الرد، والإعلان أيضا عن ظهور كاتبات نسويات سوريا في وقت مبكر من القرن العشرين، وهو ما يرصده الكتاب بدقة ومتعة من خلال ما نشرته فيكتوريا طنوس. كانت هذه المؤلفة، المولودة في مدينة يافا، قد هاجرت مع عائلتها إلى أمريكا بدايات القرن العشرين.
نشرت طنوس سلسلة من المقابلات مع شابات سوريات عاملات حول موضوع الزواج والعمل وتحت عنوان (لماذا لم أتزوج في أمريكا)، أوضحت المقالات أنه خلال الحرب العالمية الأولى فقد عدد كبير من الرجال السوريين وظائفهم، ما أجبر النساء السوريات على دخول سوق الخياطة في مدينة نيويورك، وتحمل أعباء مصروف البيت. مع ذلك فإن هؤلاء الرجال، ظلوا يخجلون من عمل النساء، وأبدوا تخوفهم من أن أي يلعب موضوع خروجهن نحو الفضاء العام دورا سلبيا في حياة الأسرة. فخلال وجودهن في المصانع، وانتقالهن من المنزل للمصنع، وبالعكس، أخذن يسمعن قصصا جديدة عن الحياة عموما، ما أثر لاحقا على رؤية هؤلاء العاملات لدورهن، وموقعهن داخل العائلة المهاجرة.
أكثر ما دافعت عنه طنوس هو فكرة الحب واقترانه بالزواج. كان مثقفون إصلاحيون من أمثال قاسم أمين، قد دافعوا عن فكرة ربط الحب بالزواج، فبدلا من الركون لفكرة الزواج التقليدي، وجد أمين أن الرجل المتعلم المتزوج من امرأة متعلمة، سوف يستمر في التمتع بالجوانب الفكرية والروحية للزواج، فـ»الحب الحقيقي» له جانبان متكاملان، هما الجانب العضوي والجانب الفكري والروحي، ولكي نجد هذا الحب كما يرى أمين، من الضروري وجود تناسب بين الزوجين في تعليمهما.
بدت طنوس آنذاك قريبة من أفكار أمين، إذ دافعت عن فكرة تأخير سن الزواج، وحق الفتيات في اختيار الزوج المناسب، كما أنها وجدت في أفكار الحب فرصة لتحسين ظروف الحياة الزوجية، وهو ما عبرت عنه بوضوح في إحدى مقالاتها بالقول «إن الحب جميل، والزواج الذي يبنى على الحب الحقيقي، هو الزواج السعيد».
كاتب سوري