ما تشهده طهران اليوم من غارات وضربات دقيقة ومنظمة، ليس مجرد تصعيد عابر، بل فصلٌ متقدّم في حرب استنزاف إقليمية بدأت مع “طوفان الأقصى” في غزة، وتمدّدت إلى لبنان حين دكّت إسرائيل الضاحية والجنوب والبقاع، وأسقطت أبرز قيادات “حزب الله” ومراكزه. تلك الضربات، يومها، لم تُفضِ إلى اجتياح شامل، بل إلى نتيجة استراتيجية أشد فاعلية: فرض القرار 1701، الذي منح إسرائيل حرية حركة جوية، وقيّد قدرات الحزب. ظنّ كثيرون أن ذلك الحدّ سيبقى على أطراف المحور، وأن طهران – الرأس – خارج المعادلة. لكن ما جرى فوق الضاحية، يتكرّر اليوم فوق طهران… وبشكل أعمق وأكثر خطورة.
فلم تعد العاصمة الايرانية بعيدة، ولا محرّمة على الطائرات الاسرائيلية. اخترقت إسرائيل السيادة الايرانية من الباب العريض، معلنة أن الطريق إلى طهران بات معبّداً – لا بلاغياً بل ميدانياً – بأسراب من المقاتلات التي دمّرت منشآت نووية وصاروخية كانت تُعدّ “خطًا أحمر”. لم يكن الهجوم مجرد ضربة استباقية، بل محاولة لفرض معادلة جديدة: شلّ قدرات الدفاع، وضمان حرية عمل إسرائيلية في سماء إيران، على طريقة القرار 1701… ولكن في قلب الجمهورية الاسلامية.
المفارقة أن إيران، التي لطالما قدّمت نفسها كالمركز الصلب للممانعة، تلقت الضربة بالطريقة نفسها التي ضُربت بها أذرعها في بيروت ودمشق وغزة: عجز دفاعي، شلل ردعي، وردود إعلامية لا تغيّر شيئاً. المدينة التي رُفع لواؤها كرمز لصمود المحور، بدت فجأة مكشوفة، تتلقى الصفعات بلا غطاء ولا حماية.
أكثر من 70 طائرة إسرائيلية حلّقت فوق إيران، وأعلنت “حرية حركة” من غرب البلاد إلى قلبها، في مشهد يُعيد إلى الأذهان الطائرات التي لا تغيب عن أجواء الجنوب اللبناني منذ توقيع القرار 1701. التصريحات العسكرية الاسرائيلية أوضحت أن “الخطوط الحمر” الايرانية سقطت، وأن ما يجري في الأجواء ليس استعراضاً بل تمهيدٌ لنزع أنياب الدفاعات الجوية، وفرض ما يشبه “منطقة حظر ردّ”.
إيران ردّت على طريقتها: صواريخ ومسيّرات أحدثت بعض الخسائر، لكنها لم تُوقف الضربات ولم تعدّل في ميزان الردع. الردّ بدا أقرب إلى واجب معنوي منه إلى قرار عسكري محسوم. وكما في لبنان، حيث أصبح الردّ على الغارات الجوية خاضعاً لحسابات دقيقة، تسير إيران اليوم نحو مربع مماثل: “ردّ مضبوط” تحت سقف لا يُزعج إسرائيل ولا يستفز واشنطن.
وهنا تتضح الأهداف الاسرائيلية: لم تعد الحرب على المنشآت فقط، بل على المعادلات. إسرائيل تريد تكرار تجربة بيروت في طهران، وتثبيت معادلة “نقصف ولا تردّ”، كأنها تسعى الى تصدير الـ 1701 من حدود لبنان إلى قلب إيران. أما واشنطن، فقد انتقلت من دور الوسيط إلى الشريك العلني، وبارك دونالد ترامب الضربات قائلاً إن “المزيد قادم”، في رسالة أوضح من كل البيانات الديبلوماسية.
السؤال الآن: هل تصبح طهران ضاحية جديدة في بنك أهداف إسرائيلي مفتوح؟ وهل سقط رأس المحور بالهشاشة نفسها التي سقطت بها أطرافه؟ المشهد من بيروت إلى بغداد يؤكد أن الاستنزاف انتقل من المحيط إلى المركز، وأن المعركة لم تعد دفاعاً عن الجبهات بل عن البقاء الرمزي لنظام الممانعة.
إسرائيل قررت أن زمن الخطوط الحمر انتهى، وأن الردع يجب أن يُعاد تعريفه على هواها. تريد هدنة في طهران، من دون اتفاق، وبلا وسيط، فقط بطائراتها ومفاجآتها العسكرية. أما إيران، فقد بدأت تعيش ما عاشه “حزب الله”: استنزاف بطيء، وانتظار دائم لضربة، وحرية حركة لعدو يفرض إيقاعه.
ببساطة: إسرائيل تسعى إما الى إسقاط النظام في طهران… أو توقيعه على 1701 جديد بصمت، كما حصل في بيروت.