طلبت الولايات المتّحدة من إسرائيل شنّ ضربات ضدّ إيران. لم يقتصر دور واشنطن على غضّ الطرف عمّا كان رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقترحه بإلحاح على إدارة الرئيس دونالد ترامب، بل إنّ الأميركيين يتبنّون تماماً “خيار نتنياهو” في التعامل مع برنامج إيران النووي.
تقول واشنطن إنّها لا تشارك في العمليّات العسكرية، وربّما هذا الصحيح، حتّى الآن، لكنّ إسرائيل تحرّكت بدفع أميركي وبسلاح نوعيّ أميركي مستفيدة من “بركة” أميركية، تمنّعت عنها واشنطن قبل ذلك.
كان لافتاً أنّ الأميركيين هم من قدّموا لإيران كلّ أعراض ضربة إسرائيلية مقبلة. نقلت كبريات المنابر الأميركية عن “مسؤول أميركي” امتلاكه معلومات عن تحضيرات إسرائيلية في هذا الصدد. أُلحقت المعلومة – السبق بأنباء عن سحب أصول بشرية أميركية من بعثات واشنطن الدبلوماسية في المنطقة، لا سيما في العراق. تدعّمت أجواء الحرب بما صدر عن واشنطن من إجراءات وتحرّكات عملانية لقواعد الولايات المتّحدة في المنطقة.
بالمقابل، وكان هذا لافتاً، كانت إسرائيل أعلنت، تعليقاً على تلك الأنباء، أنّها لم تتّخذ أيّ إجراءات عسكرية جديدة توحي بعزمها شنّ ضربة عسكرية، وأنّ الأمور على عاديّاتها. حتّى إنّ الصحف الإسرائيلية نقلت أنباء هذا التوتّر من مصدرها الأميركي. لكنّ ما أثار اهتمام المراقبين هو ضبابيّة المعلومات التي صدرت عن الولايات المتّحدة وإسرائيل بشأن المكالمة الهاتفية التي أجراها ترامب مع نتنياهو الإثنين الماضي، والتي استغرقت 40 دقيقة. لم يصدر عن الطرفين ما يفضح الضربة العسكرية، لكنّ تلك المكالمة هي التي أسّست لها. بدا هنا أنّ ترامب طلب الضربة من “صديقه”.
تقول واشنطن إنّها لا تشارك في العمليّات العسكرية، وربّما هذا الصحيح، حتّى الآن، لكنّ إسرائيل تحرّكت بدفع أميركي وبسلاح نوعيّ أميركي
لم تصدّق إيران أنباء الاستعدادات للضربة الإسرائيلية. اعتبرتها تهويليّة من عُدّة الشغل التقليدية قبل أيّام من انعقاد جلسة المفاوضات الأميركية الإيرانية السادسة التي كان من المفترض أن تنعقد الأحد في مسقط. لم تصدّق، وربّما لم تجد سابقة في أن يستخدم أحد المفاوضين الخيار العسكري الموجع ضدّ المفاوض الآخر قبل جلسة يفترض أنّ مبدأها الوصول إلى اتّفاق بالطرق السلمية الدبلوماسية. لم تصدّق طهران تلك “المزاعم” إلى درجة أنّ قادة الجيش والحرس الثوري كانوا ينامون في مقرّاتهم داخل الأحياء المعروفة لهم بطمأنينة كاملة.
تغيّر الخطابَين
استبق ترامب الضربة الإسرائيلية بإعلانه استمرار التمسّك بالخيار الدبلوماسي والوصول إلى اتّفاق، اعتبره وشيكاً، “لكن لا أعرف ما جرى لإيران” حتّى تغيّر خطابها. بدا من وجهة نظر واشنطن أنّ إيران لم تفهم ما تغيّر في واشنطن في الأسابيع الأخيرة حين خرج المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف يعلن أنّه لن يكون مسموحاً لإيران أن تخصّب اليورانيوم ولو بنسبة 1 في المئة. أعاد وزير الخارجية ماركو روبيو التلويح بضرورات “تفكيك” البرنامج النووي، فيما أعاد ترامب وكرّر ملحّاً أنّه غير مسموح لإيران امتلاك قنبلة نووية وغير مسموح لها بتاتاً تخصيب اليورانيوم.
عوّلت طهران على أنّ كلام ما قبل جلسة المفاوضات سيتبدّد بعد الجلسة. هكذا كانت الأجواء في الجلسات السابقة حين كان الفرقاء يدخلون قاعات التفاوض بسقوف صقوريّة ويخرجون “حمائم” يشيدون بأجواء الإيجابيّة والتفاؤل. بدا أنّ واشنطن تحتاج هذه المرّة إلى تغيير قواعد هذه اللعبة وأن يشارك الخيار العسكري في أعمال الخيار الدبلوماسي أملاً أن يحدث اختراق على أيّ طاولة ستُستأنف مع إيران ولو بعد حين.
لم تصدّق إيران أنباء الاستعدادات للضربة الإسرائيلية. اعتبرتها تهويليّة من عُدّة الشغل التقليدية قبل أيّام من انعقاد جلسة المفاوضات الأميركية الإيرانية
تعويم “خيار نتنياهو”
أعاد ترامب تعويم “خيار نتنياهو”. كان قد غضب من ذلك الخيار قبل أسابيع وأخذ على موظّفين في إدارته الميل إلى ذلك الخيار فأبعدهم واحداً تلو آخر، وفي مقدَّمهم مستشار الأمن القومي مارك والتز. وقيل أيضاً إنّ مبعوثة واشنطن إلى لبنان مورغان أورتاغوس دفعت ثمن أهوائها الإسرائيلية المفرطة. قد تكون إيران أيضاً مسؤولة عن تعويم هذا الخيار. عجزت عن قراءة الموقف الأميركي وموازين القوى والمزاج المتدرّج في واشنطن. خسرت إيران ثنائيّة قرار مع الولايات المتّحدة كانت تنتظره دول العالم، كما إسرائيل، كان بإمكانها البناء عليه بعد الاتّفاق، وباتت إسرائيل أساساً في صنع اتّفاق جديد وشريكاً في مآلات ما بعده.
مهاجمة قلب النّظام
لم تهاجم إسرائيل البرنامج النووي فقط، بل قلب نظام الجمهورية الإسلامية. لم تترك إسرائيل لطهران إلّا الردّ الانتقامي بكلّ ما أوتيت من قوّة، ليس دفاعاً عن مشروعها النووي الذي يشغل العالم منذ عقود، بل دفاعاً عن نظام الجمهورية الإسلامية ومناعته. تكمل إسرائيل ورشتها في ضرب نفوذ إيران في المنطقة منذ غزّة مروراً بلبنان وسوريا واليمن انتهاء بإيران نفسها وبرعاية أميركية كاملة.
إقرأ أيضاً: عندما تسقط إيران في ساعات!
خسرت إيران رهاناتها. بات موضوع الردّ تفصيلاً سبق أن خبرته إسرائيل وعرفته الولايات المتّحدة. لم تعلن واشنطن الحرب على إيران، لكنّها قد بدأتها بشكل آخر. وقد تشارك فيها بشكل أوسع، دفاعاً عن إسرائيل هذه المرّة، واضعة النظام في طهران والوليّ الفقيه أمام الخيار الخبيث: إمّا صدام ينتهي بمآلات كتلك التي أطاحت بأنظمة العراق وليبيا وأفغانستان ويوغسلافيا، وإمّا تجرّع “الكأس” الشهير في ذاكرة الجمهورية الإسلامية، والقبول باتّفاق كان يمكن أن تجني طهران أفضل منه. يقول ترامب إنّه سينتظر إيران في مسقط الأحد. وإن لم يحصل اجتماع الأحد المقبل ولن يحصل الأحد الذي بعده. لن تتوقف الضربات الإسرائيلية حتى يحين موعد الاجتماع والنتيجة واحدة لا نووي في إيران…