تباهت إسرائيل بأنّها مارست خدعة إعلامية مُحكمة للتمويه على إيران قبيل تنفيذ عدوانها العسكري على أراضيها ومنشآتها، واستهداف قادتها العسكريين وعلمائها النوويين. ووفق الصحافة الإسرائيلية، هدف هذه الخدعة تعزيز عنصر المفاجأة وتأخير ردّ الفعل الإيراني، وهذا ما حدث بالفعل، ففيما كانت الأعين موجّهة نحو جولة المفاوضات النووية الجديدة بين واشنطن وطهران، التي كان مقرّراً عقدها في مسقط اليوم الأحد، بدا مستبعداً أن تسبقها إسرائيل بشنّ هجوم على إيران. وبلغ التمويه الإسرائيلي حدّ الزعم أنّ الهدف من اجتماع مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الذي وضع اللمسات الأخيرة على الهجوم الوشيك بحث مفاوضات المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس، وهو موضوع أبعد ما يكون عن الترتيبات الجارية للعملية الجاهزة لضرب إيران. وكان مقصوداً أيضاً صرف اهتمام الإعلام الإسرائيلي إلى عطلة رئيس الوزراء نتنياهو وخططه الشخصية، بما فيها نيته إغلاق المجال الجوي لإسرائيل استعداداً لحفل زفاف ابنه، لتضليل المراقبين وتبديد أيّة شكوك حول ما يجري التحضير له.
بشيءٍ من الانتباه، نرى أنّ إسرائيل ليست وحدها من مارس الخداع الإعلامي، وإنّما كانت واشنطن شريكةً أساسية في الأمر، ومن ذلك الادّعاء الإسرائيلي بإرسال مسؤولين إلى واشنطن قبل جولة مفاوضات النووي بين واشنطن وطهران، ومواصلة تسريب المزاعم عن خلافٍ بين نتنياهو وترامب، في مسعى واضح إلى طمأنة طهران من أنّ عملاً عسكرياً إسرائيلياً ضدها مستبعد، انطلاقاً من اليقين أنّ إسرائيل لا يمكن أن تغامر بضرب إيران بدون موافقة وغطاء أميركيين.
ولن تكون مبالغة القول إنّ ترامب شخصياً متواطئ بشكل واضح في هذه الخدعة، التي تتجاوز بالنسبة له حدود الخدعة الإعلامية لتصبح خدعة سياسية بامتياز، وهي خدعةٌ لم تنشأ عشيّة العدوان الإسرائيلي، وإنّما تعود إلى أسابيع، وربما شهور ماضية، حينما بدأت المفاوضات غير المباشرة مع طهران بشأن برنامجها النووي، بغية وصول تسوية تُفضي إلى رفع العقوبات على إيران، حيث أكثر ترامب القول إنّ اتفاقاً وشيكاً مع طهران قادم، رغم حذر التصريحات الإيرانية حول الموضوع، ونشر أخبار مضلّلة عن ضغوط أميركية على نتنياهو لمنعه من شنّ ضربة ضد إيران.
أكثر ما فضح ضلوع ترامب في الخدعة الإعلامية – السياسية الرامية إلى بث حالّ من الطمأنينة والتراخي في استعداد الإيرانيين لما ينتظرهم من سيناريوهات مفزعة، كانت تصريحاته قبل ساعات قليلة من بدء إسرائيل هجومها، حين قال إنّ ضربة عسكرية إسرائيلية ضد إيران ليست مستبعدة، لكنّها “لن تكون وشيكة”، وهو العالم أنّ الطائرات العسكرية الإسرائيلية كانت حينها تتأهب للإقلاع نحو الأراضي الإيرانية لتسديد ضرباتها التي أوقعت خسائر موجعة، وكان لعنصر المفاجأة؛ صنيع تلك الخدعة، دوره في فداحة الخسائر، وإنْ لم يكن الوحيد، فمعه أسباب أخرى، بينها الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي المريع داخل إيران الذي مكّن تلك الضربات من بلوغ أهدافها، منشآتٍ كانت أم أفراداً، بيسر.
بعد أن وجهت تل أبيب ضرباتها في فجر الجمعة، لم يتأخّر ترامب في الكشف عن ضلوعه في اللعبة، حين وصف عدوان إسرائيل بـ “الضربة الممتازة”، معلناً دعمه الكامل الهجوم، وبعد أن قال إنّ إيران “تلقّت ضربة قاسية جداً”، هدّد بأنّ “هناك مزيداً في الطريق”. وعند سؤاله عن مشاركة الولايات المتحدة في الضربة امتنع عن إعطاء إجابة صريحة، مكتفياً بالقول: “لا أريد الردّ على ذلك”، ما يفتح الباب واسعاً أمام التأويلات بشأن حجم التنسيق الأميركي الإسرائيلي في تنفيذ العملية، التي تشكّل انتهاكاً لسيادة دولة مستقلة، وتهديداً سافراً للأمن والاستقرار في المنطقة التي تفاخر ترامب بالتريليونات التي عاد محملاً بها من زيارته أخيراً بعض بلدانها.
وفيما يكشف أنّ العملية لم تكن إسرائيلية خالصة، بل جزء من شراكة استراتيجية أوسع ضد إيران، قال ترامب، في منشورٍ له على منصته “تروث سوشيال”، في لهجة تهديد وابتزاز للإيرانيين: “الموت والدمار وقعا بالفعل، لكن لا يزال بالإمكان وقف هذه المذبحة… فهناك خطّة جاهزة لهجمات أكثر عدوانية قادمة”.
يشير ذلك كله إلى أنّ الأمر بالنسبة لترامب وإدارته يتجاوز إطار الدعم السياسي، ويكشف ليس فقط العلم المسبق والتنسيق المحكم بين واشنطن وتل أبيب في تنفيذ الضربات، وإنّما ضلوع ترامب في خدعةٍ كبيرةٍ ربما انطلت، ولو إلى حدود، على الإيرانيين.