في الوقت الذي تمكنت فيه مؤسسات الطوائف الأخرى من المساهمة في الحماية الاجتماعية، وجد السنّة أنفسهم خارج أية رعاية
على أثر حملة قمع شنها أمراء محليون موالون للسلطنة العثمانية، بدأ الموارنة موجة هجرة من مواطنهم التقليدية في شمال لبنان باتجاه الجنوب الذي كان تحت سيطرة الدروز. وبذلك، بدأت تغييرات عميقة في بنية السلطة الاجتماعية في الجبال التي تمتعت بقدر من الاستقلال عن المركز في اسطنبول.
الانتقال نحو الجنوب خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، أدى إلى تفكك البنية السائدة في صفوف الموارنة الذين كانوا ينتظمون ضمن عشائر وقبائل مختلفة. نظام الولاءات القديم لا زال ماثلا في بعض مناطق شمال لبنان، حيث تسود عائلات تنتمي إلى الإرث الاقطاعي (مع التحفظ على استخدام هذا المصطلح لاختلافه عن ذلك المستخدم في التاريخ الاجتماعي- السياسي الأوروبي). أسر معينة في الشمال اللبناني الحالي لا زالت تحافظ على الممارسة السياسية ذاتها التي ورثتها منذ مئات الأعوام من دون تغيير.
والحال أن الهجرة نحو الجنوب حتمت ظهور نظام جديد من الولاءات لتنظيم شؤون الموارنة في كسروان والمتن والشوف وما يلي هذه المناطق. فقدان العائلات الإقطاعية القديمة لنفوذها على المجموعات التي استقرت في المناطق التي أصبحت مختلطة (درزية ومارونية) دفعت إلى البحث عن شكل جديد من التنظيم لم يتأخر ظهوره في الكنيسة المارونية التي نقلت أيضا مقرها من الشمال إلى كسروان. وإن احتفظت بمقر صيفي في بلدة الديمان الشمالية. الجدير بالذكر أن كسروان هذه شهدت تعايشا بين عائلة إقطاعية مارونية قديمة هي آل الخازن، والكنيسة المارونية. وسرعان ما اكتشف آل الخازن الزخم الكبير الذي تتمتع به الكنيسة كممثل لكل الموارنة، وانضووا تحت لوائها.
وفي خلفية التركيبة الاجتماعية السياسية في جبل لبنان، يتعين التذكير بأن السلطنة العثمانية اعتمدت تقسيما للسكان يضعهم في فئتين: سكان المدن، وسكان الجبال الذين صنفهم العثمانيون كعشائر وقبائل. وبذلك، اضطر سكان المدن وبغض النظر عن طوائفهم إلى دفع الضرائب، فيما أعفي سكان الجبال منها بسبب تصنيفهم كقبائل، على غرار باقي القبائل في السلطنة. المفارقة أن الموارنة الذين كان لهم وجود وازن في مدينة حلب كانوا يدفعون الضرائب باعتبارهم من سكان المدن، أما موارنة الجبال فكانوا معفيين منها.
تفكك البنية العشائرية والقبلية في المناطق التي نزح الموارنة إليها بكثافة في كسروان والشوف وصولا إلى جزين وما دونها جنوبا، عزز الموقع القيادي للبطريركية المارونية التي واصلت سياستها التقليدية بالعلاقة مع المراكز المسيحية في الغرب، في فرنسا وروما على الخصوص. بذلك انعقدت عناصر مكونة للسلطة الاجتماعية والسياسية للكنيسة على الجماعة المارونية.
ومع تغير الموقع الذي كان الموارنة يحتلونه في المناطق الدرزية، من فلاحين لاجئين إلى أصحاب أملاك وأراض واسعة، وبالتالي نفوذ ملموس، رفع من مستواه هزيمة إبراهيم باشا وانسحابه من بلاد الشام ونهاية محاولة حاكم مصر محمد علي باشا القضاء على السلطنة العثمانية في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، والتطور في العلاقات الاقتصادية مع المركز الأوروبي، بات الموارنة أكثر ثقة في النفس وقدرة على تحدي الأمراء الدروز الذين اعتبروا من المهزومين. وبذلك بدأت ثلاثة عقود من الحرب الأهلية المديدة بين الدروز والموارنة وصلت إلى ذروتها في 1860 التي انتصر فيها الدروز عسكريا وهزموا سياسيا. وكانت الكنيسة المارونية هي “العقل السياسي” الحقيقي في كل هذه المرحلة المعقدة.
جراء ذلك، وإضافة إلى الإسناد الأوروبي، أسست الكنيسة المارونية مكانتها كمركز قوة لا يمكن تجاوزه في كل ما له علاقة بجبل لبنان الذي تحول إلى قلب دولة لبنان الكبير عند انسحاب القوات التركية في نهاية الحرب العالمية الأولى وانطلاق البحث في مصير هذه المنطقة التي كانت قد حصلت على حكم ذاتي موسع تحت اسم “متصرفية جبل لبنان” في أعقاب حرب 1860 التي سبق ذكرها.
هذا العرض ضروري لفهم الاختلافات بين مواقع المرجعيات الدينية في النظام اللبناني. وحتى اليوم، من العسير على أي سياسي لبناني ماروني، أن يعارض علنا توجهات “بكركي”– مقر البطريركية المارونية في كسروان– من دون أن يحسب ألف حساب. على سبيل المثال، ظل هجوم أنصار العماد ميشال عون على البطريرك مار نصرالله بطرس صفير سنة 1990 أثناء “حرب الإلغاء” بين الجيش اللبناني الذي كان يقوده ميشال عون، و”القوات اللبنانية”، يعتبر نقطة سوداء في تاريخ “التيار الوطني الحر” الذي أسسه عون. مثال آخر هو استهزاء زعيم تيار “المردة” سليمان فرنجية بالبطريرك صفير ذاته سنة 2005. واللافت أن فرنجية ينتمي إلى واحدة من العائلات الإقطاعية التي حافظت على زعامتها في الشمال استنادا إلى البنية التقليدية التي أصابها الوهن في أوساط الموارنة.
اللافت أن التمسك بمفهوم لبنان المستقل، لم يشمل جميع المسيحيين. فيلاحظ أن الطائفة الأرثوذكسية مثلا، التي ظلت مرتبطة دينيا بالبطريركية الأرثوذكسية في دمشق، كانت مصدرا لعدد من أبرز دعاة الوحدة العربية والسورية التي تتجاوز الكيان اللبناني.
بالانتقال إلى الطائفة السنيّة، يتعين الانتباه إلى أن المسلمين السنّة في النواحي التي ستشكل الجمهورية اللبنانية، كانوا على مدى القسم الأكبر من التاريخ العربي الإسلامي، جزءا من “الدولة” وتميزت علاقتهم بنوع من الحميمية، باعتبارهم على دين الخليفة أو السلطان، سواء كان في بغداد أو غيرها، ربما يكون الاستثناء أثناء الحكم الفاطمي الذي سبق الحروب الصليبية للشام ومن ضمنها الساحل الذي يتمركز السنّة فيه. وعاد المسلمون إلى علاقتهم السابقة مع السلطة أثناء الحكم الأيوبي والمملوكي وصولا إلى العثماني.
عليه، لم يكن للمؤسسة الدينية السنيّة استقلالا عن السلطة ولم تعرف إشكالية من النوع الذي عاشته الطوائف المسيحية وحتى الدروز والشيعة حيال سلطة تتبنى دينا ومذهبا مغايرا. وبذلك ظلوا ضمن السلطة وتشكيلاتها وهو ما سيكون له تداعيات كبيرة لاحقا، فالسنّة لم يكونوا موجودين كطائفة موحدة عند المفاوضات على رسم حدود لبنان على سبيل المثال. وكان تمثيلهم أثناء المؤتمرات التي عقدت في أوروبا وسوريا سواء لبحث مصير المناطق التي انسحب منها الجيش التركي أو تلك التي أعلنت فيها الدولة العربية، يجري على مستوى الوجهاء المحليين وليس كمندوبين عن المسلمين السنّة.
ولا يخفى أن التغيرات التي أصابت موقع الإفتاء في الدولة العثمانية انعكس على المناطق التي كانت تخضع لسيطرتها. ومنها موقع الإفتاء في لبنان، حيث يعتبر الشيخ توفيق خالد الذي تولى منصب الإفتاء سنة 1932 أول مفتٍ للجمهورية اللبنانية التي كانت تحت الانتداب الفرنسي، بعد وفاة الشيخ مصطفى نجا الذي جرى تعيينه بفرمان من السلطان العثماني.
وانضواء دار الإفتاء تحت مظلة رئيس مجلس الوزراء اللبناني- وهو المنصب الأعلى الذي يستطيع مسلم سنّي الوصول إليه وفق تقسيم المناصب طائفيا في لبنان- يضعف كثيرا قدرة دار الإفتاء على الاضطلاع بدور مستقل عن دور رئاسة الحكومة، خلافا للبطريركية المارونية، على سبيل المثال.
واللافت للاهتمام أن رجال الدين السنّة الذين حاولوا أداء أدوار سياسية واسعة، تعرض أكثرهم إلى الاغتيال، وأبرزهم المفتي حسن خالد الذي لا يزال المفتي الأكثر انخراطا في الشأن العام طوال تاريخ المفتين في لبنان، وهو ما وضعه في مواجهة مع كثير من القوى المسيطرة على الساحة السنيّة وصولا إلى اغتياله بعبوة ناسفة ضخمة استهدفت سيارته في 1989.
منذ ذلك الحين، عاد رجال الدين السنّة إلى موقع ثانوي في تراتبية الزعامة السنيّة في لبنان، نظرا إلى الافتقار للاستقلال عن المؤسسة السياسية والزعامات السنيّة الدنيوية. وعلى الرغم من وجود المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الذي يضم شخصيات الطائفة السنّية وممثليها في البرلمان إلا أنه يخضع إلى الظروف ذاتها ويعكس التوازنات السائدة بين السنّة في لبنان.
هذا الواقع انعكس عجزا عن الاستجابة الفاعلة مع الظروف القاسية التي مرت على لبنان وأصابت السنّة اللبنانيين أكثر من غيرهم؛ ففي الوقت الذي تمكنت فيه المؤسسات الدينية والسياسية التي تتولى تمثيل الطوائف الأخرى من أداء دور في تشكيل شبكات حماية اجتماعية وإنسانية في الأزمة الخانقة التي يمر بها لبنان منذ أربعة أعوام، وجد السنّة أنفسهم وقد باتوا أيتاما بالمعنى الدقيق للكلمة، حيث لا يحظون بأية رعاية، سواء على مستوى مؤسسات الدولة التي انهارت تقريبا إلى الحضيض ولا على مستوى الهيئات الأهلية التي أفلحت الطوائف الأخرى في بنائها ولو على حساب الدولة اللبنانية.
عليه، ليس من المبالغة القول إن سنّة لبنان اليوم يعانون أزمة مزدوجة تفوق أعباؤها ما يعانيه مواطنوهم من الطوائف الأخرى وذلك بسبب سقوط زعاماتهم السياسية وهزال البدائل الموجودة، من جهة، وبسبب رهانهم المبالغ
فيه على الدولة كمصدر للحماية الاجتماعية والسياسية في بلد يزداد فيه، يوما بعد يوم، رسوخ الدور الطائفي.