–
بدأت إسرائيل منذ يوم 13 يونيو/ حزيران الجاري ضربات عسكرية مباشرة على الأراضي الإيرانية، في لحظة تبدو في السطح سياسية – أمنية، لكنّها من منظور آخر مجرّد فصل إضافي من استعراضات القوة العارية، التي تشكّل بنية هذا الزمن. في الخلفية: نووي مُهدَّد، طموحات إقليمية، خطوط حمراء. وفي الواجهة: مشهد مدروس بصرياً، يُنتج نشوةً في المخيّلة، أكثر ممّا يخلق رأياً عامّاً واعياً. لكن ما يجري في الإعلام العربي وشبكات التواصل الاجتماعي من ردّات فعل مرتبكة حدّ التواطؤ، يكشف أعمق من مجرّد الانقسام بين “ممانع” و”مُهلِّل”: نحن أمام لحظة افتتان جماعي بالقوة بصرف النظر عن منطقها وغايتها، فحين يصفّق بعض المقهورين للضربة الإسرائيلية على طهران لا يفعلون ذلك حبّاً بإسرائيل، إنما لأن الذاكرة الجريحة وجدت أخيراً من يضرب الجلاد السابق باسمها. لكن هذه الرغبة، مهما تفهّمنا أسبابها، تظلّ نكوصاً نفسياً، تعويضاً قهرياً. إنهم لا يريدون العدالة، يريدون إعادة تمثيل مشهد الإهانة بالعكس، وإن اقتضى ذلك الوقوف على الخشبة نفسها، تحت الأضواء نفسها.
في هذا السياق، لم تعد الحرب امتداداً للسياسة بوسائل أخرى، بقدر ما تكون امتداداً للعرض المسرحي بوسائل أكثر جاذبية. لا تعنينا النتائج، وحدها هنا الصورة: دخانٌ أنيق، هدفٌ مصوَّب، تعليقاتٌ ساخرة، خريطة تشتعل. وهنا تتجلّى القوة العارية: لا عنفاً، بل بنيةً رمزيةً تنتج شرعيةً داخليةً للعنف، من خلال اختزال الآخر إلى “شيءٍ يجب ضربه”. ولأننا لم نعد نملك أدوات إنتاج المعنى، نكتفي بإعادة توزيع الأدوار على خشبة المسرح، ونصفّق لمن يلعب دور الجلّاد بمهارة أكثر. هكذا تصبح الضحية شريكاً في إعادة تمثيل تعذيبها، لأن الجلّاد تغيّر فقط.
في هذا الزمن، لا أحد بريء، لا إسرائيل التي تحوّلتْ حربُها فيديو غرافيك عالي الجودة، ولا إيران التي أسبغتْ على مليشياتها خطاباً مقاوماً لتبرير سحق الذوات، ولا الشعوب التي تاهت بينهما، وتحوّلت مُستهلكاً عاطفياً لصراعات لا تصنعها. فهل يُعقل أن القوة التي تسحق غزّة تصبح مقبولةً فقط لأنها تقصف طهران؟ وهل يجوز أن نتخلّى عن معاييرنا الأخلاقية، فقط لأن الألم تغيّر موقعه؟
لا يكشف هذا التحوّل هشاشة المعايير فقط، بل أيضاً زوالها الكامل، وظهور بنية خطاب ما بعد أخلاقية، يُعرّف فيها الخير والشرّ حسب جمالية الصورة، والافتتان بالفعل، لا بمأساوية الواقع. لقد تحوّلت الحرب جسدَ فحل، يُعرَض بتقنيات متطوّرة، يُراقَب لا ليُدان، بقدر ما يراقب ليتحوّل إلى موضوع شهواني للمشاهدة السياسية. ومثلما أُعجب بعض الأوروبيين بالنازية في ثلاثينيّات القرن الماضي، لا لأنها أقنعتهم، بل لأنها أبهرتهم، نعيد اليوم الخطأ ذاته: نصفّق للقوي، ونصمت عن الدمار.
لكنّ الهزيمة الكُبرى لا تكمن في القصف، بل في أن تصير أنتَ (بوصفك ضحيةً) غير قادر على الحزن، بقدر تعطّشك لرؤية خصمك يُصفَع في الشاشة. في هذه اللحظة، تنزلق الضحيةُ من موقع الأخلاقي إلى موقع المتفرّج المتواطئ. من مقاومة الإبادة إلى استهلاك صور الإبادة المضادّة. من المطالبة بالعدالة إلى التماهي مع الجلّاد الأكثر إثارة. وفي ظلّ هذا التلوّن، تصبح مقولة “المجد للشعوب” فعلَ مقاومةٍ رمزيةٍ أكثر من أن تكون جملةً تنتمي إلى زمن الحرب الباردة.
الإيمان بالشعوب يعني أن ترفض الاختيار بين قاتلَين، وتعيد مركزية الإنسان الهشّ، ليس بوصفه ضحيةً تُستثمر ويعاد تدويرها كلّ مرّة، إنما كائناً حرّاً شهماً، يرفض المشاركة في المذبحة ولو متفرّجاً. “المجد للشعوب”، هذا تدخُّل طفيف في خطاب الخراب، تذكير بأن هناك من لا يزال يرفض فتنة القوة، ولو صامتاً. إنه تذكير بأن الانسحاب من مشهد الحرب أحياناً أشرف من تحليل تفاصيلها.
السلامة للشعب الإيراني وبقيّة الشعوب المقهورة.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News