كنت في مقابلة تلفزيونية (الخميس الفائت) عبر شاشة “LBC” اللبنانية، وقلت ردّاً على سؤال: “هل تضرب إسرائيل إيران في ظلّ موقف الرئيس ترامب المعارض أيّ خطوة تصعيدية قبل انتهاء المفاوضات النووية واستكشاف إمكانية التوصل إلى اتفاق؟”، إن “لا شيء ولا أحد يردع نتنياهو، والرئيس ترامب يحميه؛ أسقط في مجلس الأمن قراراً بوقف الحرب على غزّة، باستخدام حقّ النقض (فيتو) في وجه كلّ أعضاء المجلس، وعطّل انعقاد مؤتمر حلّ الدولتَين بتهديده المباشر الدول المشاركة بعقوبات من أميركا إن أقدمت على اتخاذ خطوة ضدّ إسرائيل، ودفع سفيره في إسرائيل هاكابي إلى التدخّل لدى أحزاب الائتلاف لمنع إسقاط حكومة نتنياهو، أو حلّ الكنيست والدعوة إلى إجراء انتخابات عامّة. هذه مبادرات لا تقدّر بثمن في هذا التوقيت، وتشكّل حمايةً ورعايةً استثنائية لنتنياهو، الذي كانت له في بداية الأسبوع مكالمة هاتفية مع ترامب، أكّد فيها أن تجربته وخبرته في الميدان مع حركة حماس وحزب الله علّمته أن أذرع إيران (وإيران نفسها) لا يأتون إلا تحت الضغط والضرب. وأن عامل الوقت ملائم لتوجيه ضربة لإيران ومنشآتها النووية، خصوصاً بعد تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي اتهم إيران بتجاوز كلّ الحدود في مشروعها النووي. وقال نتنياهو: إيران على عتبة تحقيق مشروعها بامتلاك السلاح النووي. ولا يمكن أن نتركها تفعل ذلك. أيّ تأخير وأيّ خطوة تراجعية في وجه إيران وأذرعها تعتبر مكافأة لهم”. وأضفت: “رغم الخلاف على التوقيت، نتنياهو (وبالتجربة أيضاً) يعرف أنه إذا أقدم على خطوة من هذا النوع، واندلعت مواجهة كبرى بين إسرائيل وإيران، فالموقف الأميركي ثابت معروف، والمتوقّع أيضاً أن أميركا لن تتخلّى عن إسرائيل. ستدافع عنها، ستحميها. هذا هو نتنياهو، يضرب، يأخذ… يقضم… يهضم، ثمّ يرتاح، ثمّ يكمل. إنه أمكر وأقدر وأمهر وأخطر وأخبر، رئيس حكومة في تاريخ إسرائيل يعرف كيف يتعامل مع العقل الأميركي، وحلمه التاريخي المهووس به أن يكون بن غوريون الثاني. فبن غوريون الأول هو المؤسّس ويريد أن يكون بن غوريون الثاني المُكرِّس. مكرّس دولة إسرائيل الكبرى المتفوّقة، السيّدة في المنطقة”، وكنتُ حاسماً في توقّع الضربة.
يحلم نتنياهو بأن يكون “بن غوريون الثاني”، المُكرِّس، ويعرف كيف يتعامل مع العقل الأميركي
في الثالثة من فجر اليوم التالي، فعلها نتنياهو وضرب إيران، وأصاب. أصاب إيران إصاباتٍ موجعة. قتل أركاناً من القيادتَين العسكرية والأمنية، وعدة علماء، في عملية نوعية متطوّرة جدّاً. عطّلت كلّ شيء في إيران، وكشفت كل شيء، تماماً كما فعل مع الذراع الأقوى لإيران، حزب الله في لبنان. قتل من قتل، وكشفهم بالأسماء والرتب والمسؤوليات. المشاهد ذكّرت بما كنا نراه في الجنوب، وفي بيروت وفي عدة مناطق. استهداف المعنيين في منازلهم. في غرف نومهم. الضربة قوية موجعة، والخرق فاضح. دولة مثل إيران تنكشف بهذا الشكل، هذا في حدّ ذاته مكسب كبير لإسرائيل، ولا سيّما أن إيران كانت قبل أيام تفاخر بأنها حقّقت إنجازاً استخباراتياً تاريخياً بحصولها على وثائق ومعلومات دقيقة عن المشروع النووي الإسرائيلي، وتحدّث مسؤولوها بكثير من الثقة والفرح عن هذا الإنجاز، وأكّده رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رفائيل غروسي.
اندلعت حرب القصف المتبادل، أصيبت إسرائيل. نعم، ثمّة دمار غير مسبوق، لكنّ ذلك كلّه لا يصل لحدّ مقارنته بحجم الخسائر الاستخباراتية الأمنية العسكرية التي مُنيت بها إيران. دخل الموساد أراضيها في منطقة معينة، وبنى مخازنَ مسيّرات مفخّخة وأخرى معدّة للاغتيالات، وكان ما كان. كما استفاد من تطوير قدراته وإمكاناته في الداخل، في قلب طهران بالذات، إذ سبق لعناصره أن قتلوا علماء نوويين في وضح النهار في الشارع، وأبرز تجلّيات الاختراق كان في اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنيّة (نهاية يوليو/ تموز 2024)، في بيوت الضيافة في طهران، في عملية نوعية استثنائية. كذلك، منذ أن ذهبت اسرائيل بأجهزتها الأمنية وتقنياتها إلى أذربيجان، وقالت للإيرانيين قبل أن يخرجوا من سورية، وكانوا يديرون عمليات ضدّها في “حدودها”: “لقد جئتم إلى حدودنا وها نحن الآن في حدودكم” (وكتبت عن هذا الموضوع في حينه داعياً إلى ترقّب نتائجه). وهكذا فرضت إسرائيل طوقاً استخباراتياً أمنياً في المحيط، وحضوراً في الداخل، ووفّرت كلّ إمكانات الهجوم الذي قال عنه نتنياهو: “كان يجب أن ينفّذ في إبريل/ نيسان الماضي، لكنّنا أجلّناه”، مشيراً إلى أن محاولات كانت قائمة لتنفيذه بين عامي 2011 و2012، لكنّها لم تنجح “لأنه لم يتوفّر إجماع حولها”.
ماذا فعل ترامب؟… قال بكلّ بساطة: “أبلغت بالهجمات مسبقاً، ولا توجد مفاجآت، وسندافع عن إسرائيل”. وأضاف: “بعض المتشدّدين الإيرانيين تحدّثوا بشجاعة، لكنّهم لم يكونوا يعلمون ما الذي كان سيحدث، جميعهم موتى الآن، والأمر سيزداد سوءاً. الهجوم الإسرائيلي على إيران ممتاز. لقد تعرّضتْ لضربة قوية جدّاً والمزيد من الهجمات قادم، يجب على إيران التوصّل إلى اتفاق قبل أن يذهب كل شيء، وإنقاذ ما كان عرف سابقاً بالإمبراطورية الإيرانية. لقد حاولت إنقاذها من الذلّ والموت ولم تقبل”. ماذا يعني ذلك غير التبنّي الكامل لمبدأ نتنياهو “لا يأتون إلا تحت الضرب”؟ وكرّت بعد الهجوم سبحة التعليقات الغربية: “لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها”، المعزوفة المعروفة بعد كلّ عملية تنفّذها دولة الاحتلال، أمّا نتنياهو فأعلن: “قلت لترامب إن المفاجأة سرّ النجاح…. إيران تشهد فوضى وتعمل حالياً في رصّ الصفوف”. وخاطب الشعب الإيراني: “أنا والشعب الإسرائيلي معكم، حربنا ليست مع الشعب الإيراني، وصراعنا ضدّ عدو مشترك هو النظام… هذه نقطة تحوّل تاريخية، ونريد إنهاء المحور الإيراني”، وكأنّه يؤشّر إلى أن المعركة المقبلة مباشرةً (لاستثمار ما تحقّق) هي التركيز في تغيير النظام، وضرب المحور من رأسه إلى أذرعه، بعد أن حقّق خطوات كثيرة وكبيرة في هذا الاتجاه. والخطوة الأولى تحريض الشعب الإيراني ضدّ النظام، بعد انكشافه ومقتل كبار مسؤوليه الأمنيين والعسكريين، وسقوط كلّ تهديداته أمام الاختراق الإسرائيلي الكبير.
لقد حقّق نتنياهو إنجازاً كبيراً وقدّم نفسه “البطل” و”المنقذ” و”المخلّص”، وعَـد “أصدقاءه” و”حلفاءه” بالتخلّص من أذرع إيران وضربها، اليوم سيكمل خطواته في كلّ المناطق وفق المرسوم، ولن يقف أحدٌ في وجهه. إنه في عمله هذا يخاطب كلّ هؤلاء: ستأتون إليّ فرادى وجماعات، وإلى المنطقة الجديدة الآمنة المستقرّة التي أبنيها، الخالية من “قوى الشرّ” و”المعادين للسامية”. أنا “السيّد”، وأميركا معي. لا يستطيع أحد منكم أن يفكّر بأيّ شيء أو يتمنّى أيّ شيء أنا لا أريده ولا يكون في مصلحة إسرائيل التي نقرّرها نحن، وليس غيرنا، في أيّ مكان.
ماذا سيفعل العرب لإنقاذ ما تبقّى وهم أكثر المعنيين بخطورة اندفاع إسرائيل في مشروعها التوسّعي في المجالات كلّها؟
في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2018، خرج نتنياهو في مؤتمر للتكنولوجيا، وخاطب الإسرائيليين: “سأنقل إليكم خبراً سارّاً لا يتوقف عند قوة الجيش الإسرائيلي، إنما يتعلّق باقتصاد إسرائيل القوي والمذهل، لقد أطلقت العنان لشرارة العبقرية المتأصّلة في شعبنا في الابتكار، انظروا إلى الشركات العشر الرائدة عام 2006، خمس منها للطاقة وشركة تكنولوجيا معلومات واحدة هي ميكروسوفت، وبعد عشر سنوات عام 2016، في غمضة عين من الناحية التاريخية، خمس شركات لتكنولوجيا المعلومات، وشركة طاقة واحدة.. غوغل وآبل وأمازون وفيسبوك لديها مراكز أبحاث في إسرائيل. إنه تغيير كبير. إنها جملة واحدة: التقاء البيانات الكبيرة والاتصالات والذكاء الاصطناعي. إسرائيل تُحدث ثورةً في الصناعات القديمة وصناعات جديدة بالكامل. سكّان إسرائيل يشكّلون 1% من عدد سكّان العالم. النسبة التي نحصل عليها من الاستثمار العالمي في مجال الأمن السيبراني 20%، خاصّة في مجال الإنترنت. نحن مائتي مرّة فوق وزننا، وليس مرّتين، ولا عشر مرّات ولا مائة مرّة. هذا قوي جدّاً. هذه هي إسرائيل التي تقود العالم”. بعد أيام (13 أكتوبر من العام نفسه)، كتبت مقالاً حول هذا الخطاب: “اسمعوا يا عرب. إسرائيل تقود العالم”، وتحدّثت عن الواقع العربي الذي لم يتغيّر إلا في اتجاه الأسوأ، “تقدّمت علينا إسرائيل بالعلم والإصرار والإرادة والإيمان والتكنولوجيا، رغم كثرة المتعلّمين والكفاءات عندنا، ولسوء التقدير والتدبير، وقلّة القراءة على مستوى أصحاب القرار. لقد فعلها نتنياهو وحقّق ما حقّق. فماذا ينتظر العرب أكثر من ذلك، وماذا سيفعلون لإنقاذ ما تبقّى وهم أكثر المعنيين بخطورة اندفاع إسرائيل في مشروعها التوسّعي في المجالات كلّها؟”.