ملخص
من يتأمل نصوص الكاتبة الصينية إيون لي، بإمكانه أن يلاحظ علاقتها الوثيقة بالحزن، ذلك الحزن الذي عبرت عنه ككاتبة وتقبلته كقدر محتوم، بعد انتحار ابنيها: فنسنت وجيمس.
بعد هذه المأساة المزدوجة، أصبح الحزن تيمة مركزية في عدد من أعمال الكاتبة الصينية إيون لي، لكنها لا تكتب عنه بشاعرية، بل تتناوله بموضوعية محيرة من دون التورط بلغة عاطفية أو الانغماس في سرد بكائي يثقل صوت شخصياتها. تكتب إيون لي بهدوء ورصانة كما لو كانت تمارس الصيد أو الحياكة، في تأمل متبادل بينها وبين قرائها. ولفهم هذه العلاقة الوثيقة بالحزن، لا بد من تتبع سيرتها الذاتية التي تتقاطع مع معظم أعمالها المكتوبة باللغة الإنجليزية، إذ امتنعت لسنوات طويلة عن ترجمة نصوصها إلى الصينية، مبررة ذلك بأن الكتابة بلغة مكتسبة تعزز من حرصها في انتقاء مفرداتها وصياغة جملها بعناية، على خلاف التعبير التلقائي باللغة الأم، كما أضافت سبباً آخر يكشف عن تخوفها من “خيانة الترجمة” واحتمال توظيف نصوصها في سياقات سياسية تحرص على الابتعاد عنها، فضلاً عن ذلك لم تخف إيون لي علاقتها المتوترة بوالدتها، وهو ما قد يفسر امتناعها عن استخدام اللغة الصينية في الكتابة، حماية لنصوصها من قراءة الأم فهي لم تعد تستخدمها سوى للتواصل اليومي مع زوجها، بينما تكتب وتفكر وتحلم باللغة الإنجليزية.
من حياتي، أكتب إليك في حياتك
في عام 2017، نشرت إيون لي مذكراتها، تحت عنوان: “صديقي العزيز، من حياتي أكتب إليك في حياتك” في هذا الكتاب، تناولت تجربتها المريرة مع الاكتئاب ومحاولاتها المتكررة للانتحار، من دون أن تتخيل الكاتبة أنها بعد أشهر قليلة فقط، من نشرها للمذكرات، ستواجه فاجعة انتحار ابنها البكر فنسنت في عامه الـ16، ولم تمض سنوات حتى لحق به ابنها الأصغر جيمس منتحراً هو الآخر عام 2024، لتخسر ابنيها، حين قرر كل منهما أن يضع حداً لحياته في وقت مبكر.
thumbnail_IMG_9090.jpg
الرواية بإلانجليزية (دار بنغوين)
هذا الحدث المروع، دفعها إلى طرح سؤال على نفسها قبل أن يطرحه الآخرون، هل كانت كتاباتها أحد العوامل التي أثرت في وعي ابنيها؟ هل جعلت الانتحار يبدو الخيار الوحيد لإنهاء المعاناة؟ كقولها في مذكراتها أن “رغبة الإنسان في الموت قد تكون عمياء وغريزية تماماً كالتعلق بالحياة”. وأضافت في حوار لها بأنها تدرك أن الناس يسعون إلى إيجاد تفسيرات مقنعة للانتحار، ويبحثون عن شخص يلام، وغالباً ما يقع اللوم على الوالدين ولكنها على رغم كل شيء واقعية، لأنها تقر بأن قدراتها كأم كانت محدودة، وكل ما كان في وسعها هو أن تبذل قصارى جهدها.
حين تنتهي الأسباب
في روايتها “حيث تنتهي الأسباب”، تكتب إيون لي عملاً مؤثراً يسرد تجربتها الإنسانية في الفقد، متخذة من الكتابة وسيلة للاستيعاب والتشافي. تستحضر حواراً متخيلاً بين أم وابنها المنتحر، موزعاً على 16 فصلاً يعادل عدد سنوات عمر ابنها فنسنت. تنطلق الرواية من لحظة يظهر فيها نيكولاي، الابن المنتحر، مخاطباً والدته، قد يبدو هذا الحوار للوهلة الأولى وكأنه حديث مع كائن شبحي نابع عن هلوسات اضطراب الصدمة أو إنكار الفاجعة، ولكن الأم تتدارك هذا الالتباس وتوضح بأنها واعية بأن نيكولاي ليس حاضراً بهذه القوة إلا من خلال الكلمات. تصف نفسها بأنها مجرد أم عادية تحزن على ابن عادي في مأساة غامضة يصعب شرحها، ومع ذلك ترى وتضيف أن الكلمات بينهما تتشابك بسهولة، فقد كانا ذات يوم جسداً واحداً أو كما عبرت عنه بدقة بالإنجليزية كانا: “لحماً واحداً” تخاطبه بقولها: لقد كدت أن أكونك ذات مرة لذا سمحت لنفسي باختلاق عالم كهذا للتواصل معك، وتتماهى إيون لي مع بطلتها التي منحتها مأساتها الكاملة، فتقول: “منحته ذات يوم حياة من لحم ودم، وها أنا أمنحه حياة ثانية، هذه المرة من خلال الكلمات”.
لا يسبب هذا التشابك اللغوي والروحي بين الأم وابنها أي مأزق فني، إذ منحت إيون لي لكل شخصية استقلاليتها، فلا يبدو السرد مختزلاً في صوت واحد يتردد كالصدى. وتتجلى هذه الاستقلالية في نقاشات فلسفية حول الحياة والموت، والألم والفرح والذات والهوية، مما يظهر تنوعاً في وجهات النظر بينهما، إضافة إلى ذلك، لا تكتب لي الحاضر المتخيل فحسب بل تسترجع الماضي مستمدة السرد من مخزون الذاكرة، ليبدو النص في شكله النهائي، سيرة ذاتية مزجت فيها الواقع بالخيال، الواقع المرتبط بالماضي والمتخيل الذي يمنح – في الزمن الحاضر – الصوت لشخصية فارقت الحياة.
تصف إيون لي شخصية نيكولاي بأنه شاعر سبق عمره في النضج، شاب ذكي ومرهف، يعيش الحياة بأحاسيسه، وهو في الوقت نفسه عنيد ودائم السخرية من نفسه. تحاول الأم في الفصول الأولى من الرواية، بناء تواصل جديد بينهما، مستعيدة العلاقة المعقدة بينهما، المميزة بالحميمية والمسافة الآمنة في آن، تقديراً منها لمساحته وخياراته. تخبره عما مرت به من فقد، كاشفة عن أن الحزن كان دائماً جزءاً من وجودهما المشترك. تمتد الحوارات لتشمل أسئلة وجودية عميقة، عن مفهوم الزمن وكيف تعيد الذاكرة تشكيل الوعي، وعن اللغة والإبداع، الشعر والخيال. ويستعيدان معاً ذكريات الأيام الممطرة والوقت الذي كانا يقضيانه في الطبخ والخبز والأعياد، كما لو كانت الراوية تعيد عيش الأحداث وتختلق لحظات جديدة تعوض بها الغياب.
لكن الرواية ليست قاتمة على امتدادها، إذ تتخللها حوارات ساخرة وضحكات تنتهي بوجع، وفي أحد المشاهد، يطرح نيكولاي تساؤلات تحيلنا إلى معاناته في علاقاته الاجتماعية وحقيقة أنه ربما لم يكن مفهوماً كما تمنى، مثل تأمله لتحية الناس لبعضهم بعضاً، يقول: “لا أعرف لماذا يسأل الناس سؤال كيف حالك How are you ، بدلاً من أن يطرحوا سؤالاً أهم: Who are you أي من أنت اليوم، إذ يجد أنه السؤال الأفضل لبدء حوار مع شخص لا تعرف كيف هو من الداخل في ذلك اليوم، وإن بدا ظاهرياً كسائر الأيام، وفي مشهد آخر، يمازح نيكولاي والدته متذكراً محاولتها الفاشلة في إعداد التشيز كيك اليابانية، في تلميح رمزي للفشل واستحالة تغيير ما مضى. يمضي نيكولاي في تأملاته، من الذاكرة إلى الكلمات، والغاية منها ومدى تأثيرها، قبل أن تنتهي الرواية بنقاشات أخيرة عن حدود علاقتهما داخل هذا الفضاء المتخيل الذي جمعهما مجدداً.
ماذا تعني رسائل المنتحرين في مصر؟
إيمان مرسال تتعقب آثار الكاتبة عنايات الزيات بعد 56 عاما على انتحارها
في أحد حواراتها، تعترض إيون لي على مفردةGrief وعلى الطريقة التي يتعامل بها المجتمع الأميركي مع الحداد والأسى كثقافة معاصرة وكمرحلة تنتهي في وقت معين. تقول: “حزني على ابني ليس عبئاً ولا أريد لحزني أن ينتهي، وفاة ابن لا يشبه موجة حارة أو عاصفة ثلجية ولا حاجز سباق ينبغي تجاوزه كي تفوز”. تصف كتابة روايتها “حيث تنتهي الأسباب” بعد وفاة ابنها فنسنت بأنها كانت أشبه بالوقوف في عين الإعصار، ولم تشعر بأنها خرجت من تلك العاصفة، إلا بعد الانتهاء من كتابة الرواية، ومنذ ذلك الوقت، واصلت احتمال الحياة بالكتابة، مؤلفة أعمالاً جديدة، من دون أن تتوقع فاجعة أخرى، ففي عام 2024، خسرت ابنها الثاني جيمس الذي أنهى حياته بإلقاء نفسه أمام قطار. على عكس تجربتها الأولى، لم تفكر لي في إهدائه كتاباً خاصاً به، احتراماً منها لطبيعته، فجيمس كان انطوائياً، قليل الكلام والتواصل على رغم إجادته لثماني لغات، كانت تعلم بأنه ما كان ليرغب بأن يكون في دائرة الضوء، لهذا ترددت في الكتابة عنه وارتبكت أمام افتقارها للمفردات التي يمكن أن تمنحها لجيمس كما فعلت مع فنسنت. لكنها على رغم كل ذلك، استطاعت في نهاية المطاف أن تكتب، فصدر لها هذا العام كتاب مذكرات بعنوان: “الأشياء في الطبيعة تنمو فحسب”، تروي فيه تجربتها المأسوية مع فقد ابنيها.
إيون لي، الكاتبة الصينية المقيمة في الولايات المتحدة الأميركية، ألفت 12 كتاباً بين الرواية، القصة القصيرة، وأدب المذكرات، وحازت على جوائز أدبية مرموقة من أبرزها: جائزة الغارديان لأفضل كتاب أول، عن مجموعتها القصصية “ألف عام من الصلوات الجيدة” وجائزة “بن/همنغواي” عن “حيث تنتهي الأسباب”، وجائزة “بن/ فوكنر” للخيال عن رواية كتاب الإوزة.