طهران استمرت في الحرب مع العراق لـ5 سنوات إضافية وكانت تعاني من حصار وعزلة دولية وهي الحالة نفسها التي تعيشها الآن
ملخص
كل المؤشرات تؤكد أن الهجوم الإسرائيلي كان منسقاً مسبقاً مع الإدارة الأميركية وقيادة الناتو، وأنه جاء في اليوم التالي لانتهاء مهلة الستين يوماً التي حددها ترمب للتوصل إلى اتفاق. وأن هذا التنسيق يقوم على تولي تل أبيب مهمة الافتتاح وإنهاء المهمة في ثلاثة أيام، أما في حال تطورت الأمور فإن جميع الأطراف ستكون على استعداد للتدخل لمصلحة تل أبيب.
عندما أعلنت إيران أواخر شهر مايو (أيار) عام 1982 تحرير مدينة خرمشهر “المحمرة” في محافظة الأهواز من القوات العراقية، كان الحدث بمثابة تحول جذري في مسار الحرب العراقية- الإيرانية، وكان بإمكان قيادة الزعيم المؤسس للنظام الإسلامي الحصول على نصر حاسم، لو أن الزعيم حينها أعلن موافقته على الوسطات الدولية والعربية التي دعت إيران للقبول بقرار مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب وتحميل العراق مسؤولية إشعالها وما يعنيه ذلك من تعوضيات مالية وسياسية واقتصادية.
الذي منع تحقيق وقف إطلاق النار حينها، تمسك المؤسس بالبعد الأيديولوجي ورفض التصالح مع الرئيس العراقي صدام حسين حينها، وإصراره على تحقيق الشعار الذي رفعه بإزالة النظام العراقي والقضاء على حكم صدام، وقد عبر عن ذلك بعبارة لا تزال تحفر في الذاكرة الإيرانية عندما قال “لو جاء عيسى المسيح لما استطاع إحياء صدام”.
لم يلتقط زعيم الثورة والنظام حينها أن هذا الحدث قد أدخل المنطقة بمنعطف جديد، وأنه من غير المسموح لإيران أن تتحول إلى قطب جديد في المعادلات الإقليمية على حساب الدول الأخرى. وعدم التقاط هذه المؤشرات، أسهمت في عدم قراءة ما حصل في السادس من يونيو (حزيران) من تلك السنة، عندما قامت القوات الإسرائيلية باجتياح لبنان واحتلال عاصمته وإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية.
الإصرار على الاستمرار في الحرب ضد العراق، أدخل إيران في نفق استنزف مقدراتها وقوتها لمدة خمس سنوات أضيفت إلى ثلاث من اندلاعها حتى تحرير خرمشهر. انتهت فيه الأمور إلى تراجع القدرات المالية لشراء السلاح من السوق السوداء في ظل الحصار التسليحي المفروض عليها، وتراجع القدرة على حشد القوى البشرية لدعم الخطوط القتالية. وعندما وضعت هذه الحقائق أمام زعيم النظام حينها وما لحق بإيران من خسائر ميدانية، لم يجد أمامه خياراً سوى الإعلان عن “تجرع كأس السم” والقبول والموافقة على قرار مجلس الأمن رقم 598 بوقف الأعمال القتالية من دون الحصول على أي تعويضات.
المفاوضات الأميركية – الإيرانية والغموض البناء
المسار الذي شهدته منطقة الشرق الأوسط والأحداث التي حصلت من تاريخ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحتى تاريخ 13 يونيو 2025، كانت بمثابة صورة مشابهة للمسار الذي دخلته إيران بعد تحرير خرمشهر. مع فارق أن صوت الشريحة الداعية للتوصل إلى تفاهم مع المجتمع الدولي وإبعاد الكأس المرة عن إيران كان أكثر ارتفاعاً عما كان في عام 1982، لكن من دون كبير أثر أو قدرة على فرض رؤيته وقراءته على منظومة السلطة والقرار في النظام.
لا شك أن القيادة الحالية للنظام، قد لمست بوضوح المآلات المقبلة على الإقليم، بخاصة بعد أن تعرضت كل المكتسبات التي حققتها إيران على مدى العقود الأربعة الماضية للانهيار أو لانتكاسة قاسية من الصعب ترميمها بسرعة أو السماح لها بذلك. وكان واضحاً في مواقف المرشد الأعلى حجم الخسارة التي لحقت بالمشروع الإقليمي لإيران، لذلك تخلى في مواقفه عن الحديث حول مفهوم “العمق الاستراتيجي للنظام الإيراني” وقدرة وقوة محور المقاومة الذي تقوده طهران على تغيير المعادلات أو فرضها. وبعد سقوط النظام السوري والضربة التي لحقت بـ”حزب الله” في لبنان، حاول إعادة توجيه بوصلة مواقفه بالحديث عن “حتمية إعادة إحياء المقاومة” في مواجهة الطموحات الإسرائيلية والمشروع الأميركي في غرب آسيا.
محاولة القيادة الإيرانية إعادة إحياء مفهوم “الليونة الشجاعة”، وما نتج منها من اعتماد خيار الحوار والتفاوض مع الإدارة الأميركية التي وصلت إلى البيت الأبيض بقيادة الرئيس دونالد ترمب، على رغم الثأر القائم بين المرشد وبين ترمب نتيجة اغتيال الذراع اليمنى للنظام ومهندس النفوذ الإقليمي قاسم سليماني، لم يكن سبب قناعة عقائدية بضرورة هذا الحوار والتفاوض، وإنما محاولة للانحناء أمام العاصفة التي بدأت مؤشراتها بالاقتراب من محيط إيران وعنق النظام.
الخديعة التي تعرض لها النظام بعد عقد خمس جولات من الحوار والتفاوض غير المباشر مع الإدارة الأميركية من أجل التوصل إلى تفاهم جديد حول مستقبل البرنامج النووي الإيراني، والتي انتهت بالضربة المفاجئة التي نفذتها إسرائيل فجر الثالث عشر من هذا الشهر، وضعت النظام في موقف صعب، بين الاستمرار في التفاوض تحت النار أو الانسحاب والذهاب إلى خيار المواجهة.
كل المؤشرات تؤكد أن الهجوم الإسرائيلي كان منسقاً مسبقاً مع الإدارة الأميركية وقيادة الناتو، وأنه جاء في اليوم التالي لانتهاء مهلة الستين يوماً التي حددها ترمب للتوصل إلى اتفاق. وأن هذا التنسيق يقوم على تولي تل أبيب مهمة الافتتاح وإنهاء المهمة في ثلاثة أيام، أما في حال تطورت الأمور فإن جميع الأطراف ستكون على استعداد للتدخل لمصلحة تل أبيب.
لا شك أن ما أظهرته طهران من قدرتها على الاستيعاب السريع للضربة الموجعة، والمبادرة إلى الرد بقصف العمق الإسرائيلي بموجات من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، قد أربك حسابات تل أبيب، بخاصة في ظل استمرار الضربات المتبادلة. مع قدرة إيران على تحملها في الحدود التي عليها حالياً، واعتماداً على التجربة التي خاضتها في حرب المدن مع العراق. في مقابل الرهان على عدم قدرة تل أبيب على ذلك، خصوصاً إذا ما أدت الضربات الإيرانية إلى إلحاق خسائر كبيرة وقاسية في البنية العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للحكومة الإسرائيلية.
الرهانات الإيرانية انتقلت مع اندلاع المواجهة المباشرة مع تل أبيب إلى لعب “النفس الطويل” وقدرتها على إدارة الوقت في هذه الحرب، مع السعي لعدم إعطاء الذريعة لواشنطن وحلفائها للتدخل وتوسيع دائرة الحرب. وأنها في حال نجحت في إدارة هذه المرحلة فإنها ستكون قادرة على تكريس حقيقة جديدة حول ماهية وطبيعة برنامجها النووي بعيداً من الشروط الأميركية والإسرائيلية.
وأمام هذه الرهانات، تبقى الحقائق الميدانية هي الأكثر تأثيراً في مسار الأحداث، فإيران التي استمرت في الحرب مع العراق لمدة خمس سنوات إضافية، كانت تعاني من حصار وعزلة دولية، وهي الحالة نفسها التي تعيشها الآن في ظل ما يتمتع به خصمها من دعم لا محدود. الأمر الذي يضعها في مواجهة خيار التنازل والقبول بالشروط المطروحة عليها من واشنطن. ويبقى السؤال، هل سيكون المرشد على استعداد لتجرع كأس السم كما فعل سلفه المؤسس، أم أن مرشداً آخر سيفعل ذلك في حال نجحت تل أبيب باغتياله كما قال رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، الذي اعتبر أن هذا الاغتيال يسرع في إنهاء الملف الإيراني.