الحديث عن التكاليف الاقتصادية لهذه الحروب ليس ترفاً تحليلياً، بل ضرورة لفهم حجم المأساة التي عاشتها المنطقة وتعيشها؛ فالفاتورة لا تتوقف عند الأرقام المباشرة، بل تشمل أضراراً غير مرئية تلازم الأجيال، وتُقدَّر اليوم بمليارات الدولارات المتراكمة.
لطالما كان الشرق الأوسط مرادفاً للنزاعات والحروب، فمنذ منتصف القرن العشرين، تتوالى النزاعات المسلحة تاركةً وراءها ندوباً عميقة لا تقتصر على الخسائر البشرية الفادحة فحسب، بل تمتدّ لتطاول أيضاً الاقتصادات الوطنية، ولتستنزف مقدرات الشعوب. الحديث عن التكاليف الاقتصادية لهذه الحروب ليس ترفاً تحليلياً، بل ضرورة لفهم حجم المأساة التي عاشتها المنطقة وتعيشها؛ فالفاتورة لا تتوقف عند الأرقام المباشرة، بل تشمل أضراراً غير مرئية تلازم الأجيال، وتُقدَّر اليوم بمليارات الدولارات المتراكمة.
لنبدأ بحرب عام 1948، التي مثّلت لحظة تأسيس لإسرائيل و”نكبة” إنسانية واقتصادية للفلسطينيين. فقد تهجّر أكثر من 750 ألف فلسطيني، وضاعت ممتلكات وأراضٍ. أما الدول العربية التي خاضت الحرب، فتكبّدت بدورها أعباء عسكرية واقتصادية ضخمة، يصعب تحديدها بدقة بسبب غياب آليات التوثيق المالي آنذاك، في ظل أوضاع ما بعد الاستعمار.
عام 1956، فرض “العدوان الثلاثي” على مصر، بما يُعرف بـ”أزمة السويس”، ضغوطاً مالية كبيرة على مصر وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل. تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى تقديمه قروضاً إلى الدول الأربع المتحاربة، تجاوزت الـ 858 مليون دولار (أي ما يعادل 9.7 مليارات دولار حالياً)، إلى جانب التزامات ائتمانية بلغت 738 مليون دولار (نحو 8.3 مليارات دولار اليوم). هذه الأزمة ساهمت بشكل مباشر في تدهور قيمة الجنيه الاسترليني، وأجبرت بريطانيا على سحب قواتها والانكفاء عن دورها الإمبراطوري.
ثم جاءت “نكسة” عام 1967، أو “حرب الأيام الستة”، التي حملت خسائر عسكرية فادحة للعرب، ولا سيّما مصر، التي فقدت نحو 85 في المئة من معداتها العسكرية خلال المعارك، وقُدِّرت خسائرها حينها بنحو ملياري دولار (18.7 مليار دولار حالياً). أما إسرائيل فقد دخلت منذ ذلك الحين في حلقة إنفاق عسكري دائم، موّلته جزئياً مساعدات خارجية متصاعدة.
في تشرين الأول (أكتوبر) 1973، اندلعت حرب حملت آثاراً اقتصادية عالمية، إذ أدت إلى صدمة نفطية رفعت أسعار الخام بأكثر من أربعة أضعاف خلال سنة. كان ذلك نتيجة لقرار الدول العربية النفطية استخدام سلاح النفط لدعم المجهود الحربي. وعلى الجانب الآخر، تلقّت إسرائيل مساعدات عسكرية طارئة من الولايات المتحدة بقيمة 2.2 مليار دولار (15.4 مليار دولار اليوم).
غزو لبنان عام 1982 شكّل نقطة انكسار اقتصادي لهذا البلد. قُدِّرت التكاليف العسكرية المباشرة على لبنان حينها بنحو 900 مليون دولار سنوياً (2.8 مليار دولار حالياً)، أي ما يمثل ربع الناتج المحلي الإجمالي آنذاك. وعام 2006، عادت الحرب لتضرب لبنان مجدداً، مخلّفة أضراراً مباشرة قُدِّرت بنحو 3.6 مليارات دولار (5.8 مليارات دولار اليوم)، إضافة إلى خسائر مالية على الدولة اللبنانية بلغت نحو 1.5 مليار دولار (2.4 مليار دولار حالياً).
في الوقت الراهن، تبدو الحرب الدائرة في غزة منذ أواخر عام 2023 وكأنها تكرّس نمطاً مأسوياً بات مألوفاً في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. وفق تقرير مشترك للبنك الدولي وصندوق النقد، بلغت قيمة الأضرار المادية المباشرة في غزة أكثر من 30 مليار دولار، بينما قُدِّرت الخسائر الاقتصادية غير المباشرة الناتجة عن توقف الإنتاج وانهيار الإيرادات بنحو 19 مليار دولار إضافية. وفي التقرير نفسه، أُشِير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي في غزة تقلّص بنسبة 86 في المئة. أما الضفة الغربية، التي تأثرت بشدة بالقيود المتزايدة على التنقّل والتجارة، فيرجّح البنك الدولي أنها سجّلت انكماشاً اقتصادياً يتراوح ما بين 6.5 في المئة و9.4 في المئة خلال عام 2024.
وفي الجانب الإسرائيلي، تجاوزت تكلفة الحرب حتى منتصف حزيران (يونيو) 2025 نحو 85 مليار دولار، بحسب تقديرات وزارة المالية، مما يشكّل قفزة كبيرة عن تقديرات سابقة بلغت 67 مليار دولار حتى نهاية عام 2024. كذلك ارتفع الإنفاق الحكومي بنسبة 88.1 في المئة بفعل النفقات العسكرية. أما بعد اندلاع المواجهات المباشرة مع إيران، فقد قُدِّر أن العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد إيران تكلّف يومياً نحو 725 مليون دولار، فيما بلغت تكلفة اليومين الأولين من الغارات نحو 1.45 مليار دولار.
وحتى منتصف حزيران (يونيو) 2025، تسببت الضربات الإسرائيلية الموجّهة إلى منشآت الطاقة الإيرانية بخسائر مباشرة تجاوزت الـ 3.4 مليارات دولار، بعد تراجع إنتاج النفط الخام من 1.7 مليون برميل يومياً إلى أقلّ من 100 ألف برميل، وانخفاض إنتاج الغاز بنسبة 70 في المئة نتيجة استهداف منشآت “جنوب بارس”، المصدر الرئيسي لما يقارب 80 في المئة من الغاز الإيراني، فيما قُدِّرت تكلفة الردّ العسكري الإيراني بأكثر من 1.2 مليار دولار خلال 72 ساعة فقط.
أما لبنان، الذي بات في قلب النزاع بسبب “حرب الإسناد”، فقد قدّر البنك الدولي أن تكلفة الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة بلغت نحو 14 مليار دولار، منها 6.8 مليارات دولار كأضرار مادية، إلى جانب خسائر في تدفقات العملات الأجنبية نتيجة تراجع السياحة والتحويلات والاستثمارات إلى نحو 7.7 مليارات دولار.
هذه الفواتير الباهظة لا تُقَاس فقط بالدولار أو النسب المئوية، بل بسنوات ضائعة من التعليم، ورعاية صحية متدهورة، وأجيال تنمو في ظل العنف والعوز. لا يترك استمرار الحروب فقط ندوباً في الجغرافيا، بل يزرع أيضاً هشاشة اقتصادية بعيدة الأجل تهدّد التنمية وتُبقِي الشرق الأوسط رهينة نزاعات لا يبدو أن نهاياتها تلوح في الأفق.