يعتقد كثيرون أن الحرب التي تُشن اليوم على إيران، ما هي إلا امتداد لتلك الحرب الاقتصادية المتمثلة بالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على دفعات بدءاً من عام 1979، وكانت الدفعة الأخيرة عام 2020 حين طالت العقوبات القطاع المالي والمصرفي الايراني برمته.
وقد نجح الحصار الغربي في تقليص حضور ايران في سوق الطاقة، فتراجعت صادراتها من 4،5 ملايين برميل إلى 1,8 مليون برميل، وبعض هذه الكميات تضطر الى بيعه بأسعار بخسة بعيداً عن الرقابة الغربية أي بطريقة “التهريب” عبر العراق وبحر قزوين – روسيا وغيرهما. هذا الأمر لم يفقد طهران تأثيرها النفطي في إطار منظمة “أوبك” وحسب، وإنما أفقد قطاعها النفطي التقنياتِ المطلوبة وقطع الغيار، فتقادمت منشآتها وتراجع الانتاج الهيدروكربوني.
باستثناء منظومتي الصواريخ والمسيّرات اللتين بلغت بهما مستوى متقدماً، دخلت إيران الحرب بهيكلِ دولة متهالكٍ سياسياً واقتصادياً وتقنياً وتنموياً واجتماعياً، إذ وعلى الرغم من تصنيف إيران كإحدى أغنى دول المنطقة بثرواتها الطبيعية، إلا أن بعض محافظاتها وأريافها يعاني تخلفاً كارثياً في أبسط الخدمات، جراء تركيز النظام أولوياته على الاستثمار في مشروعين أساسيين، المشروع النووي ومشروع (تصدير الثورة) النفود الاقليمي.
في البداية أعلنت تل أبيب هدفاً رئيساً لحربها على إيران، وهو البرنامج النووي، مع اقتراب التخصيب من مستوى إنتاج سلاح نووي، ولاحقاً قال بنيامين نتنياهو إن الحرب لن تتوقف قبل القضاء على الخطرين النووي والباليستي الايرانيين. فلماذا استهدف الطيران الاسرائيلي مواقع نفطية مثل عبادان (أكبر مصفاة نفطية) وحقل “بارس” للغاز وغيرهما، وما خطورة استهداف منابع النفط والغاز ومنصات التكرير وموانئ التصدير؟
تشكل صادرات النفط والغاز عصب الاقتصاد الايراني، إذ توفر محفظة من العملة الصعبة للبلاد، وتسمح لطهران بتطوير برامجها العسكرية. فعلى الرغم من العقوبات غيّرت إيران اسم نفطها (الخاضع للعقوبات) إلى النفط العراقي (غير القانوني) بموافقة بغداد، حيث مارست طهران لمدة طويلة نفوذاً هائلاً من خلال وكلائها الاقتصاديين والسياسيين والعسكريين، كما لجأت الى التصدير عبر الموانئ الروسية مروراً ببحر قزوين. ويتوجه النفط الايراني -المُعاد تسميته بـ”النفط العراقي”- إلى الجيوب الرئيسة، أولها آسيا التي تبرز الصين الوجهة الأساسية فيها، ثم جنوب أوروبا وشرقها، لا سيما الموانئ التي لا تشهد سوى قيود قليلة مثل ألبانيا ومونتي نيغرو (الجبل الأسود)، والبوسنة والهرسك، وصربيا ومقدونيا وكرواتيا وغيرها.
أما حكاية إيران مع العقوبات، فتنطوي على جملة من المعطيات الصادمة، إذ تفيد تقارير إدارة معلومات الطاقة الأميركية بشأن صادرات النفط الايراني، بأن العقوبات المتقطعة من جانب إدارتي الرئيسين السابقين باراك أوباما وجو بايدن على طهران كان مآلها الفشل. وجاء في تقرير نشرته مجلة “ناشونال إنترست” الأميركية، أن العقوبات وحدها ليست وسيلة ناجعة، فمنذ عام 2020 زادت عائدات إيران من الصادرات النفطية قرابة أربعة أضعاف، من 16 مليار دولار إلى 53 ملياراً في عام 2023، وفقاً لإدارة معلومات الطاقة. وعلى الرغم من انخفاض إنتاج إيران إلى مليوني برميل غداة إلغاء الرئيس دونالد ترامب الاتفاق النووي عام 2018، إلا أنه عاد وارتفع إلى 3.4 ملايين برميل يومياً عام 2024، أي أقل ببضع مئات الآلاف من الرقم القياسي السابق البالغ 3.9 ملايين. لكن الأدهى في الأمر أن طهران استغلت مجموعة كبيرة من الشركات للتمويه، وناقلات النفط المتخفية لإخفاء المنشأ الوطني لشحناتها من النفط، بل قام العديد من شركات التأمين واللوجيستيات الأميركية بالفعل بتسهيل نقل النفط الايراني إلى الصين، وفق ما أشار الخبير الأميركي أرييل كوهين.
صحيح أن المشروع النووي يشكل درّة تاج النظام، لكن الصحيح أيضاً أن الموارد الهيدروكربونية هي روح هذا النظام، فإيران ثالث أكبر منتج في منظمة “أوبك”، وتدرك تل أبيب جيداً أن المبالغ الهائلة التي تطلبها البرنامج النووي منذ انطلاقه، والتي تخطت الـ 500 مليار دولار، وكذلك بالنسبة الى برامج تطوير الصواريخ الباليستية، إنما وفّرتها جميعاً موارد النفط والغاز، وانطلاقاً من تلك الاعتبارات يبدو جلياً أن ما يهدد إيران ونظامها إنما هو تدمير منشآت إنتاج النفط والغاز وتكريرهما وتصديرهما، خصوصاً أن تلك المنشآت تحتاج الى سنوات طويلة لإصلاحها وإعادتها للعمل.
وليس صدفةً تحذير إسرائيل لإيران من أنها ستستهدف قطاع الطاقة الايراني، إذا هاجمت القوات الايرانية المدنيين الاسرائيليين. وبالفعل فقد استهدفت الصواريخ الاسرائيلية حقل غاز “بارس” الجنوبي الذي ينتج ما يقرب من 75 في المئة من إجمالي إنتاج البلاد من الغاز الطبيعي، ومجمّع “فجر جام” الضخم لمعالجة الغاز – في جنوب إيران – بالاضافة إلى ثلاث منشآت رئيسية لتخزين الوقود في طهران، ومع تضرر هذه المراكز التخزينية تواجه العاصمة الآن أزمة وقود وشيكة، كما قد تضطر منشأة فجر جام التي تبلغ طاقتها 50 مليون متر مكعب يومياً إلى التوقف عن العمل، مع توقعات بمزيد من الضربات الاسرائيلية للبنية التحتية للطاقة الايرانية.
سيناريوهات مرتقبة
من الواضح أن الحملة العسكرية الاسرائيلية – الأميركية على إيران لن تتوقف قبل تحقيق تغيير جذري في الستاتيكو الذي كان قائماً قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أو بالحد الأدنى، إجبار طهران على تقديم تنازلات في الملفين النووي والباليستي، غير أن هذا الهدف، بحسب مراقبين، لن يتسنى لتل أبيب وواشنطن الوصول إليه لا باستهداف القادة العسكريين والأمنيين، الذين سرعان ما يتم تعيين بدائل لهم، ولا بقصف المفاعلات النووية التي يبدو أنها تحتاج الى عمليات كبيرة ومعقدة وتدخل أميركي مباشر مع ما لهذا التدخل من أثمان تتهيّب واشنطن مقاربتها، ولا باستهداف منصات الصواريخ الظاهرة منها أو المستترة بين الأخاديد القارية للبلاد وتحت جبالها.
وحده الإطباق على “الكوريدور” النفطي لإيران أو الوريد الذي يغذي النظام وحرسه الثوري، يمكن أن يحدث التغيير، لذلك سيزداد تركيز الهجمات الجوية الاسرائيلية على أهداف نفطية سواء كانت معامل إنتاج أو منصات تكرير أو موانئ تصدير، مع احتمال فرض حصار أميركي مباشر على الموانئ الإيرانية لوقف تصدير الطاقة وتدفق العملة الصعبة إلى البلاد، لتحقيق ما فشلت العقوبات الاقتصادية في تحقيقه من تجفيف موارد البرامج العسكرية من جهة، وتعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لتأليب الايرانيين وإيقاظ ثورتهم “المؤجلة” ضد النظام من جهة ثانية، وقد كان ذلك واضحاً في أحد خطابات نتنياهو الموجهة الى الداخل الايراني.
ولتفادي مخاطر تلك الاجراءات على الأمن النفطي في المنطقة والعالم، يرجّح الخبير النفطي اللبناني ربيع ياغي أن يُطلب إلى دول “أوبك”، وأخرى خارج المنظمة، زيادة إنتاجها بواقع 100 ألف برميل لكل دولة تعويضاً لغياب النفط الايراني، وتتشدد الولايات المتحدة وحلفاؤها بحماية مضيق هرمز من المضايقات التي قد تعمد إيران الى افتعالها في أحد أهم الممرات البحرية للطاقة، وتفادي تجربة إقفال طهران للمضيق إبّان حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي، علماً أن إقفال هرمز يرتد أيضاً ضرراً على إيران نفسها وعلى حلفائها في آسيا، وكذلك على دول الخليج التي دانت الحملة الاسرائيلية على إيران.
إذاً لن تتأثر إمدادات الطاقة خصوصاً نحو أوروبا، وإن تحركت أسعارها صعوداً بفعل مخاطر الحرب، وعادة ما ترتفع أسعار النقل والتأمين أكثر من سعر الطاقة نفسها، نتيجة المخاطر الحربية، كما لا يُستبعد حصول تضخم وغلاء في أوروبا المستورد الأكبر للطاقة.
آفاق الحرب نفطياً
سيوقع المفاوضون، بعد انتهاء الحرب، اتفاقاً تحت عنوان “الاتفاق النووي”، سيحتفل نتنياهو بمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية، وإلزامها بسقف سلمي للتخصيب، لكن ترامب سيذهب أبعد من ذلك، فلن يكتفي بتصحيح ما يعتبرها أخطاء اتفاق عام 2015، بل سيغرف بشهيته الرأسمالية الاستثمارية عقوداً نفطية دسمة للشركات الأميركية من البحر النفطي الايراني، على خطى وليم نوكس دارسي (D,Arcy) صاحب أول وأشهر امتياز نفطي بتاريخ إيران عام 1901.
أما الأوروبيون المسكونون بهاجس إمدادات النفط والغاز، فدفتعهم تجربتهم المرة مع أوكرانيا، الى إطلاق المبادرات من أجل وقف الحرب في الشرق الأوسط، لضمان استمرار تدفق الطاقة للقارة العجوز، من هنا جاء اللقاء الأوروبي الايراني في جنيف، بالتزامن مع إطلاق فرنسا مبادرة لوقف التصعيد، علماً أن الشركات الأوروبية ستكون لها أفضلية إيرانية بالدخول في الاستثمار النفطي.
روسيا بدروها اكتفت بالدعوة الى وقف الحرب، إذ يحاذر فلاديمير بوتين من إغضاب ترامب على أعتاب الدخول في مفاوضات وقف حربه في أوكرانيا، فيما جُل ما تطمح إليه الصين من هذا المشهد القاتم، الحفاظ على اتفاقاتها التجارية-النفطية مع طهران وعدم الإضرار بمشروعها الاستراتيجي “حزام وطريق” المار بإيران.
أما إيران نفسها، فعلى الأرجح أنها تتهيأ للصفقة التاريخية في نهاية الحرب، وبنودها:
“نجاة” نظام ولاية الفقيه.
نيل شرعية دولية للبرنامج النووي السلمي.
عودة الشركات والرساميل الأجنبية الى الاستثمار في النفط والغاز.
إنعاش الاقتصاد واسترداد الأرصدة المجمّدة في الغرب وإطلاق مشاريع تنموية تأخرت زهاء نصف قرن.
مقابل وضع ضوابط لبرامج التسلح لا سيما الصاروخية منها، ووقف التدخل في الساحات العربية وفي الاقليم.
على أن يبقى كل ذلك رهناً بتطورات الميدان ومفاجآته، عملاً بالقول المأثور “إنما الحرب سجال”.