ملخص
كان صعباً على الرئيس الأميركي البقاء خارج الصدام، فهو معني بإيجاد صيغة تنهي الطموحات النووية والإقليمية الإيرانية، ومعني باستثمار الإنجازات العسكرية الإسرائيلية من بيروت إلى طهران، مروراً بدمشق وبغداد. ولذلك جاء تدخله العسكري ليضع حداً للاجتهادات حول مهلة الأسبوعين التي أعلن عنها سابقاً، وليضع الجميع أمام واقع جديد: أميركا هي القوة العالمية الأكثر حضوراً في الشرق الأوسط، الآن وغداً.
أكثر من أي وقت مضى يبدو مصير الهلال العربي الممتد من ساحل المتوسط إلى شط العرب مرتبطاً بنتيجة الحرب الإسرائيلية – الإيرانية الدائرة منذ الـ13 من يونيو (حزيران) الجاري وثقل الانتظام الأميركي المباشر فيها.
يعتقد كل من طرفي المعركة الإسرائيلي والإيراني بإمكان رسم صورة المنطقة بحسب ما يريد ويطمح. النظرية الإيرانية الخمينية – الخامنئية تقول منذ أربعة عقود بطرد الأميركيين من غرب آسيا وتغيير الأنظمة المرتبطة بهم، والقضاء على إسرائيل نهائياً، والنظرية الإسرائيلية تستند إلى العداء الإيراني المعلن تجاه تل أبيب، لتشن على إيران حرباً، في ظروف اعتبرتها الأكثر ملاءمة، أهدافها الدنيا القضاء على مشروعها النووي والصاروخي، والقصوى تغيير نظام الملالي من جذوره، وفرض تحولات في الدول المشرقية تتيح سلاماً وعلاقات مستقبلية بينها وبين هذه الدول، بما في ذلك إيران الدولة “الإمبراطورية” التي أشاد بنيامين نتنياهو بعلاقاتها في الماضي مع دولة إسرائيل.
في لحظة بداية الحرب أظهرت إسرائيل تفوقاً كاسحاً. قضت على نخبة من القادة والعلماء الإيرانيين. وأكدت سيطرة شبه كاملة على الأجواء الإيرانية. وجاء ذلك نتيجة إعداد استخباري وبناء شبكات على الأرض استغرق تحضيرها أشهراً وسنوات، وفي المقابل بدا النظام الإيراني مترهلاً وعاجزاً، مما جعل السؤال عما كان يفعله ملالي طهران طوال سنوات غير إبداء المواعظ للآخرين وإرشادهم إلى دروب الثورة على أنظمتهم وتفتيت مجتمعاتهم، والتحريض الفارغ ضد إسرائيل التي وصفوها يوماً أنها “أوهن من بيت العنكبوت”.
فعلياً لم يقدم النظام الإيراني شيئاً لفلسطين والقدس غير تنظيمات تابعة تضمن امتداد نفوذه، وبات معروفاً ابتعاده عن المواجهة عندما طالبه إسماعيل هنية في بداية حرب غزة بوضع خطابه موضع التنفيذ، وكان جواب المرشد علي خامنئي، “إن تحرير فلسطين شرف لكم لا تدعيه إيران”، وضمن السياق نفسه صمتت طهران على اغتيال حسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” في بيروت، وقيل لاحقاً إنه لو نفذت إيران وعودها لـ”حماس” ربما ما تحولت غزة وشعبها إلى ركام، ولو ردت على اغتيال هنية لما اغتيل نصرالله، ولو فعلت كل ذلك ما كانت قيادتها كلها تحت التهديد كما هو الحال عليه الآن.
مسار الأحداث التي افتتحها طوفان غزة قاد إلى ما نشهده الآن، وكشف عن أمرين يتعلقان بإيران، فهي من جهة لم تقف فعلياً إلى جانب “منظمات الساحات الموحدة” التي أنشأتها ونظمتها تحت عنوان تحرير فلسطين، ومن جهة ثانية لم تستعد بما يكفي من جدية لمواجهة هجوم إسرائيلي واسع كالذي نشهده حالياً وكأنها لم تكن تتوقع مثل هذا الهجوم. فمنذ اليوم الأول استباحت إسرائيل أجواء “بلاد فارس” وكررت فيها ما يشبه عملية البيجر التي نفذتها ضد “حزب الله”.
بسرعة فائقة “لبننت” إسرائيل إيران ومارست ضدها ما تفعله في لبنان يومياً، من خرق جوي وقصف واغتيالات، مع فارق أساسي أن لبنان يعاني منذ أكثر من نصف قرن، وقد تعرض للدمار والخراب اللذين تتحمل إيران جزءاً معتبراً من المسؤولية عنهما.
يرسم الصدام القائم ملامح انتهاء دورة تاريخية كاملة منذ بدأ نظام الخميني وضع يده على المشرق العربي والقضية الفلسطينية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982. خلال هذه السنوات أنضج الطرفان شروط الوضع القائم الذي قاد إلى الحرب المباشرة بينهما، هي التي تم تفاديها مراراً، فاستبدلت دائماً بحروب خفية ومعارك مع الأذرع، إلى أن وفر “طوفان” غزة المبرراًت الكافية لانتقال القيادة الإسرائيلية من عقيدة بن غوريون المتحفظة إلى عقيدة نتنياهو الهجومية الحاسمة.
لم يكن ذلك ليحصل لو لا وجود الرئيس دونالد ترمب على رأس الولايات المتحدة وقراره الصريح بمنع إيران من الحصول على السلاح النووي ومستلزماته، لكن ليس ترمب وحده من لا يريد رؤية أسلحة نووية في إيران، فكل الإدارات الأميركية سعت في هذا الاتجاه، ووضعت خيار المنع بالقوة على جدول الأعمال بما في ذلك قصف المواقع النووية، وفي الواقع فإن الغارات الأميركية فجر الأحد على مواقع “فوردو” و”أصفهان” و”نطنز” جرى التدريب على تنفيذها قبل عام، في عهد جو بايدن، بين الجيشين الأميركي والإسرائيلي.
إيران مصدومة وإسرائيل تهلل وأوروبا تلوح بالتفاوض
أراح التدخل الأميركي المباشر القيادة الإسرائيلية. قبل ذلك كانت التحليلات في الصحف العبرية تتخوف من مستقبل المعركة، وقدرة إسرائيل على الاستمرار فيها.
“بدأت إسرائيل المعركة بصورة مبهرة، لكن عمليتها العسكرية بعيدة من أن تنتهي”، هكذا قالت صحيفة “هآرتس”. وخلص “معهد القدس للاستراتيجية والأمن” إلى أنه “كلما تمكنت إسرائيل من تحقيق أهداف الحملة، فإن قرارها بمهاجمة القدرات الاستراتيجية الإيرانية بقواها الذاتية سيمهد الطريق لاستكمال التغييرات في الصورة الإقليمية”.
لم تُؤدِّ الضربات الإسرائيلية الموجعة إلى انهيار في طهران، فالنظام الذي يرى فيها “تهديداً وجودياً سيبذل كل ما في وسعه لتدفيع إسرائيل أثماناً باهظة بطرق متنوعة” عبر القصف الصاروخي اليومي ومحاولة ردع الولايات المتحدة من دون الانجرار إلى معركة معها.
فجر الأحد اتخذت الأمور منحى جديداً، وإن كان مرتقباً. تدخلت المقاتلات الأميركية ودعا ترمب إيران إلى مسقط. بعد ما يقرب الـ10 أيام على اندلاع الحرب أجابت الإدارة الأميركية على السؤال الذي طرحته صحيفة “حرييت” التركية: نعرف أن إسرائيل تضرب وإيران تضرب، لكن لا نعرف ماذا يريد ترمب؟
يعرفون في إسرائيل وإيران وفي العالم أن دخول أميركا الحرب يعدل موازين القوى، ويمكن أن يحقق أحلام نتنياهو في تسجيل انتصاره الإقليمي الأكبر، لكن ترمب هو الذي سيقود المرحلة التالية وإعادة ترسيم واقع القوى والدول في المنطقة.
حتى الساعات الأخيرة كان ترمب يعطي مزيداً من الوقت للتفاوض، وكانت النتيجة حرب استنزاف كتلك الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، تشل إيران وتكبد إسرائيل خسائر لم تعتد تحملها.
كان صعباً على الرئيس الأميركي البقاء خارج الصدام، فهو معني بإيجاد صيغة تنهي الطموحات النووية والإقليمية الإيرانية، ومعني باستثمار الإنجازات العسكرية الإسرائيلية من بيروت إلى طهران مروراً بدمشق وبغداد. ولذلك جاء تدخله العسكري ليضع حداً للاجتهادات حول مهلة الأسبوعين التي أعلن عنها سابقاً، وليضع الجميع أمام واقع جديد: أميركا هي القوة العالمية الأكثر حضوراً في الشرق الأوسط، الآن وغداً.