ملخص
الولايات المتحدة، وبعد أن تحولت من أكبر مستورد إلى أكبر منتج للنفط والغاز، بدأت تتصرف كدولة نفطية تقليدية، تتراجع عن التعاون الدولي وتستخدم نفوذها الطاقي لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل. هذا التحول يعزز نزعة الانعزال ويقوض النظام العالمي القائم على القواعد، في وقت تتشابك فيه مصالح الطاقة مع الشعبوية والتوترات الجيوسياسية.
تتسم سياسات الرئيس دونالد ترمب الخارجية بالاضطراب والفوضى، من حروب تجارية وانسحابات من معاهدات دولية إلى ازدراء للحلفاء التقليديين. ويعود جزء كبير من هذا الاضطراب لرؤيته المستندة إلى “أميركا أولاً” وميله إلى الشعبوية. لكن ثمة عاملاً آخر، غالباً ما يغفل ولا يرتبط كثيراً بتفضيلات ترمب الخاصة، يسهم أيضاً في هذه السياسات. في الأعوام الـ15 الأخيرة، شهد الاقتصاد الأميركي تحولاً عميقاً ذا تداعيات جغرافية سياسية هائلة. وبعد عقود من الزمن كانت خلالها الولايات المتحدة أكثر البلدان استيراداً للنفط، أصبحت اليوم أكثر البلدان تصديراً للنفط والغاز. ومنذ ذلك الحين، تتصرف الولايات المتحدة على نحو أقل كقوة ليبرالية مهيمنة، وبصورة أكبر كدولة نفطية تقليدية.
تعد الولايات المتحدة منتجاً رئيساً للنفط منذ القرن الـ19، لكن الاستهلاك تجاوز الإنتاج بعد الحرب العالمية الثانية. وبحلول العقد الأول من القرن الـ21، كانت الولايات المتحدة تستورد أكثر من 13 مليون برميل يومياً، مما جعلها أكثر البلدان استيراداً للنفط بفارق كبير عن البلدان المستوردة التالية لها في القائمة. ثم حدث التحول الجذري مع “ثورة النفط الصخري” بين عامي 2005 و2010، عندما مكنت ابتكارات في التكسير الهيدروليكي والحفر الأفقي الشركات من استخراج كميات هائلة من النفط والغاز من الصخر الزيتي بكفاءة عالية. وهكذا ارتفع الإنتاج الأميركي بصورة هائلة. ومنذ عام 2008، ضاعفت الولايات المتحدة إنتاجها من النفط الخام، وعام 2018، تجاوزت السعودية لتصبح أكبر منتج للنفط الخام في العالم. وهكذا، حققت الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة للمرة الأولى منذ أواخر أربعينيات القرن الـ20.
لقد أعاد هذا التحول تعريف دور واشنطن على الساحة العالمية. فعندما كانت الولايات المتحدة بلداً مستورداً رئيساً للطاقة، كانت تصطف إلى جانب البلدان المستهلكة الأخرى في تأمين طرق التجارة البحرية واستقرار الأسواق ودعم المؤسسات الدولية. أما اليوم، ففقدت، مثل روسيا، اهتمامها البعيد الأجل بالتعاون الدولي، وأصبحت أكثر استعداداً لاستخدام نفوذها الإنتاجي لتحقيق مكاسب قريبة الأجل.
ويمكن أن تكون الثروة النفطية نعمة؛ فهي قد تساعد على تمويل برامج رعاية اجتماعية سخية أو تقديم مساعدات خارجية. لكنها قد تكون نقمة أيضاً. فالدول النفطية تكون معظم الأحيان أكثر سلطوية، وتميل إلى تبني سياسات خارجية عدوانية، وتتفشى فيها معدلات أعلى من الفساد – وهي اتجاهات باتت تنطبق على الولايات المتحدة اليوم. فعندما تولى مستبدون عدوانيون مثل هوغو تشافيز في فنزويلا وصدام حسين في العراق وفلاديمير بوتين في روسيا ومعمر القذافي في ليبيا الحكم في دولهم الغنية بالنفط، أصبحت الثروة التي ولدها قطاع الطاقة في تلك الدول قوة تؤدي عادة إلى زعزعة الاستقرار.
بالطبع، ثمة عوامل عدة وراء التحول في موقع الولايات المتحدة على الساحة العالمية، بما في ذلك صعود ترمب وتصاعد الشعبوية اليمينية ورد الفعل المحلي على العولمة والتجارة الحرة. وتمتلك الولايات المتحدة اقتصاداً أكثر تنوعاً بكثير من روسيا، بالتالي مصالح أكثر تنوعاً. لكن بروز الولايات المتحدة بوصفها المنتج الأول للنفط والغاز في العالم يعد عنصراً أساساً، كثيراً ما يغفل، في فهم الفوضى التي تطبع النظام العالمي المعاصر. فموقع واشنطن الجديد لا يقلل فقط من دوافعها المالية لدعم الاستقرار، بل يمنحها أيضاً نفوذاً على الدول المستوردة للطاقة – بما في ذلك الحلفاء المقربون –مما يعزز بدوره أجندة ترمب. ومن موقعها المهيمن الجديد، قد لا تتمكن الولايات المتحدة من رؤية ما يتجاوز الفوائد قصيرة الأجل للاستقلال في مجال الطاقة، فتغفل عن الضرر الذي يلحقه انسحابها من النظام القائم على القواعد، بالعالم وبنفسها على حد سواء.
هيمنة المصدرين
لا يزال الوقود الأحفوري شريان الاقتصاد العالمي، إذ يمثل أكثر من ثلث التجارة البحرية على صعيد الحجم. وتعتمد معظم البلدان على إمدادات مستقرة من النفط والغاز، ويمكن لأي اضطراب قريب الأجل أن يشل شبكات الطاقة ويعطل النقل ويوقف الإنتاج الصناعي والزراعي. لذلك، تبدي البلدان المستوردة للطاقة اهتماماً عميقاً بالاستقرار العالمي، ذلك أن رفاهها يعتمد على طرق تجارية آمنة وأسعار مستقرة وقواعد متوقعة. لكن فجوة واضحة تبرز بين سلوك البلدان المستوردة والمصدرة للنفط؛ فالبلدان المستوردة أكثر ميلاً بكثير من المصدرة إلى تبني التعددية والتعاون على أساس القواعد الدولية.
وتتنوع البلدان المصدرة للنفط على صعيدي الحجم والظروف، بدءاً من تشاد الفقيرة والممزقة بالنزاعات إلى النرويج الغنية والديمقراطية. لكن ثمة نمطين إشكاليين بارزين. الأول نمط البلدان الانعزالية، مثل أنغولا وغينيا الاستوائية وعمان التي تميل إلى الانغلاق وتقليل دخولها في الأطر الدولية. والثاني نمط البلدان التي تحدث اضطرابات، مثل إيران وروسيا وفنزويلا التي تتحدى الأعراف الدولية وتدعم ميليشيات خارجية وتغزو جيرانها. في كلا النمطين، يرتبط ازدياد صادرات النفط بانحسار التعاون مع البلدان الأخرى.
تنتمي السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترمب إلى كلا النمطين؛ فهي، مثل الدول الانعزالية، انسحبت من الاتفاقات والمنظمات الدولية، ومثل الدول المزعزِعة للنظام، أبدت اهتماماً بالتوسع الإقليمي. ومنحت زيادة صادرات النفط الولايات المتحدة نفوذاً جديداً على حلفائها من مستوردي النفط في أوروبا وشرق آسيا. وتبدو أوروبا معرضة للخطر بصورة خاصة. فخلال ولاية ترمب الأولى، حذرت وزارة الخارجية الأميركية من أن اعتماد أوروبا على الغاز الروسي يجعلها عرضة للإكراه. وبعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022، لجأت أوروبا إلى الولايات المتحدة لتأمين نسبة متزايدة من حاجاتها من الطاقة. واليوم، يعد النفط الخام أكبر صادرات الولايات المتحدة إلى القارة، فيما يأتي 45 في المئة من الغاز الطبيعي المسال المستورد إلى أوروبا من الولايات المتحدة. ومنح هذا التطور إدارة ترمب نفوذاً أكبر عند مطالبتها الأوروبيين بتقديم تنازلات تجارية. كما يكشف هذا الوضع عن أن الاعتماد على الطاقة، حتى من حليف ظاهري، يمثل نقطة ضعف استراتيجية لأوروبا. فلا يمكن لدول القارة فرض رسوم جمركية انتقامية على النفط الخام من دون التعرض لعواقب اقتصادية خطيرة، مما يمنح واشنطن أداة تأثير قوية.
ومع مرور الوقت، يمكن للثروة النفطية أن تلحق الضرر بالآفاق التجارية الأوسع للدول المصدرة. فعادة ما ترتفع قيمة عملات هذه الدول مع ارتفاع أسعار النفط، وهي ظاهرة تعرف بـ”المرض الهولندي” [الآثار الاقتصادية السلبية التي يمكن أن تنشأ عندما تتدفق العملات الأجنبية إلى اقتصاد ما نتيجة اكتشاف مورد طبيعي مثل النفط أو الغاز، كما حدث في هولندا أواخر ستينيات القرن الـ20]. ويؤدي ذلك إلى تراجع القدرة التنافسية لصادراتها الأخرى، بما في ذلك السلع الصناعية والزراعية. ومنذ انطلاقة الطفرة في النفط الصخري، ارتفعت أسعار النفط والدولار الأميركي معاً، مما يشير إلى احتمال نشوء حال مبكرة من “المرض الهولندي” في الولايات المتحدة. وقد يؤدي ارتفاع الدولار الذي كثيراً ما كان ركيزة من ركائز القوة المالية الأميركية، إلى تفاقم العجز التجاري من خلال جعل الصادرات الأميركية أكثر كلفة وأقل قدرة على المنافسة.
هل يدهم الركود الاقتصادي الولايات المتحدة قريبا؟
كذلك يضعف استقلال الولايات المتحدة في مجال الطاقة إلى حد كبير دوافعها لتحمل أعباء الحفاظ على الاستقرار العالمي، ولا سيما في المناطق التي كانت حيوية سابقاً لأمنها الطاقي. فقبل 15 عاماً فقط، كانت الصين وأوروبا والولايات المتحدة تعتمد بدرجة كبيرة على نفط الشرق الأوسط، مما جعلها تتقاسم المسؤولية في حماية الممرات الاستراتيجية لتلك التجارة، مثل قناة السويس. لكن مع تحقيق الولايات المتحدة استقلالها في مجال الطاقة، تضاءلت دوافعها لتقديم هذا النوع من الخدمات. وخلال دردشة جماعية مسربة عبر تطبيق “سيغنال” في مارس (آذار) الماضي، ناقش كبار مسؤولي الإدارة الأميركية مسائل تتعلق بالأمن القومي، وقال نائب الرئيس جي دي فانس إن على أوروبا، لا الولايات المتحدة، تحمل عبء التصدي لتهديدات الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر، مشيراً إلى أن “ثلاثة في المئة فقط من تجارتنا تمر عبر قناة السويس، بينما تمر 40 في المئة من تجارة أوروبا عبرها”. وعلى رغم أن الولايات المتحدة نفذت في نهاية المطاف الضربات ضد الحوثيين التي كانت قيد النقاش، فإن المنطق الصريح الذي عبر عنه فانس كشف عن لا مبالاة جديدة. وكانت الإدارات السابقة ترى في الاستقرار العالمي مصلحة مشتركة؛ أما كثيراً من أعضاء الإدارة الحالية، فيرون فيه مشكلة تخص الآخرين.
قوة غامضة
لم تنسحب الولايات المتحدة من النظام القائم على القواعد دفعة واحدة. فعلى سبيل المثال، يعود تراجع دعمها للتجارة الحرة لمنتصف العقد الثاني من القرن الـ21، تزامناً مع ازدهار إنتاج النفط والغاز الصخري. فخلال ولايته الثانية، رفض الرئيس باراك أوباما تعيين قضاة استئناف في منظمة التجارة العالمية، مما شل آلية تسوية النزاعات فيها. وجاء هذا القرار، جزئياً، رداً على أحكام صادرة عن المنظمة قيدت السياسة التجارية الأميركية، وشكل سابقة. وخلال ولايته الأولى، رفع ترمب السقف من خلال فرض رسوم جمركية واسعة النطاق. أما الرئيس جو بايدن، فأبقى على معظم هذه الرسوم، ولم يُعِد تعيين القضاة في منظمة التجارة وتبنى سياسات صناعية حمائية جديدة وفرض عقوبات على الصادرات بدت مخالفة لقواعد المنظمة. وتزامن تآكل دعم الولايات المتحدة للتعاون التجاري المتعدد الأطراف مع صعود النفط الصخري.
كذلك، أدت ثورة النفط الصخري دوراً لم يُقدر بما يكفي في إعادة تشكيل السياسة الداخلية الأميركية. فعام 2024، ذهب نحو 90 في المئة من تبرعات قطاع النفط والغاز للمرشحين الجمهوريين. وبدأ هذا الاستثمار يؤتي ثماره: إذ تدفع إدارة ترمب بقوة نحو توسيع استخراج الوقود الأحفوري وتقييد إنتاج الطاقة النظيفة ووقف جمع البيانات البيئية وفتح أراضٍ اتحادية جديدة للتنقيب وتفكيك التنظيمات المناخية، بل إن مدير وكالة حماية البيئة، لي زيلدين، أعلن عن خطط لإلغاء القرار الصادر عام 2009 الذي اعتبر أن غازات الدفيئة تشكل تهديداً للصحة العامة – وهو حكم يشكل الأساس للسياسة المناخية الفيدرالية في الولايات المتحدة.
وكما هي الحال في مجالات أخرى، تتسم سياسات الطاقة التي ينتهجها ترمب بالتناقض. ففي يومه الأول من ولايته الجديدة، وقع أمراً تنفيذياً بعنوان “إطلاق العنان للطاقة الأميركية”، يهدف إلى تسريع التنقيب وتقليص القيود التنظيمية. لكنه، وفي محاولة منه للسيطرة على التضخم، وعد بصورة غامضة بخفض سعر النفط إلى 50 دولاراً للبرميل – وهو سعر قد يؤدي إلى خفض أسعار البنزين، لكنه يجعل جزءاً كبيراً من إنتاج النفط الصخري الأميركي غير مربح. ويتوقع محللو الطاقة انخفاضاً في إنتاج النفط الأميركي عام 2025، على رغم شعار ترمب: “احفروا، يا أعزائي، احفروا”. وعلى رغم أن رسومه الجمركية تستثني إلى حد بعيد قطاع النفط والغاز، فإن تداعيات حربه التجارية الأوسع قد تفاقم انخفاض أسعار النفط وتقلل الطلب العالمي على الوقود الأحفوري. وببساطة: على رغم أن بعض سياسات ترمب ترتكز على مبدأ الهيمنة الطاقوية، فإن سياسات أخرى تقوض هذا المبدأ. وهذا التناقض سمة مميزة لسياسة ترمب، لكنه أيضاً مأزق تعانيه دول نفطية أخرى، تسعى في آن إلى رفع أسعار النفط لمصلحة صادراتها، وخفضها داخلياً لإرضاء مواطنيها.
ما دام أن الولايات المتحدة بقيت أكبر منتج للطاقة في العالم، فإن إغراء استغلال هذا النفوذ لانتزاع تنازلات تجارية والتنصل من الالتزامات المكلفة وتقديم المكاسب القصيرة الأجل على التحالفات بعيدة الأمد، سيبقى قائماً. قد تبدو الهيمنة في مجال الطاقة مكسباً لمستقبل القوة الأميركية، لكن إن لم تظهر الحكومة الأميركية مزيداً من الانضباط، فقد تتحول إلى وبال.
مترجم عن “فورين أفيرز” 12 يونيو (حزيران) 2025
مايكل روس أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس، ومؤلف الكتاب “لعنة النفط: كيف تشكل الثروة البترولية مسار تطور الأمم”.
إريك فويتن أستاذ كرسي بيتر أف كروغ للجغرافيا السياسية والعدالة في الشؤون العالمية بجامعة جورجتاون.