من اغتالت يد الإرهاب؟ سؤال لا يُجاب عليه بتوجيه الأصابع نحو الخارج فحسب، بل يتطلب نظرة فاحصة إلى الداخل. فحين يُستهدف الأمان والسلام في قلب العاصمة دمشق، يعني أن هناك من يرى في الاستقرار خطراً على مصالحه، وفي الأمن تهديداً لسلطته أو نفوذه. فالعملية الإرهابية التي استهدفت كنيسة في دمشق الأحد، تثير أسئلة كثيرة حول توقيتها وأهدافها، وعن الأطراف التي تسعى لتقويض الاستقرار في لحظة سياسية حساسة. فالإرهاب لا يظهر صدفة، بل يُستدعى عندما يشعر البعض بأن ميزان القوى بدأ يميل لصالح الاستقرار، وبأن الدولة بدأت تستعيد جزءاً من وظائفها الطبيعية، سواء في شكلها أو في بنيتها المؤسساتية، فلا يبقى له أي دور يعول عليه أو يستظل به.
ولهذا، فإن الخوف الحقيقي مما جرى، جراء تفجير كنيسة القديس مار إلياس في الدويلعة، يتمثل في اتساع آلام المجتمع، وفي أن المنفذين اختاروا دور العبادة أداةً للترهيب، ليوجهوا رسالتهم إلى كل السوريين.
فكل رصاصة أطلقت هناك، واخترقت صدور المصلين في الكنيسة، استقرت في قلوب المسلمين في مساجدهم، وبيوتهم، ومقرات عملهم.
ما حدث في واقع الحال، محاولة جديدة لاختطاف سوريا إلى حضن الإرهاب والاقتتال. وهي عملياً لا تختلف عن عمليات الخطف المتكررة للسوريين في كل المدن السورية من دون رادع يحول دون تكرارها، فننام على خبر فقدان هنا، ونصحو على اغتيال ضحية هناك. هي خطة لترك البلاد تنزلق مجددًا إلى دوامة العنف، عبر هجمات متنقلة، تستهدف الرموز والمؤسسات والمجتمع الأهلي، بهدف تعطيل مسار التغيير السياسي والاقتصادي، وإرباك الحكومة الانتقالية، وإعادة إنتاج مشهد يخدم القوى التي اعتاشت على الفوضى.
إن مكافحة الإرهاب تبدأ من مساءلة منظومة الحماية نفسها، ومن بناء بيئة قانونية تشاركية، يشعر فيها كل مكون سوري أنه شريك في أمن البلاد، وليس ضحية لصراع الآخرين على النفوذ. فالإرهاب لا يواجه بالخطابات، بل ببناء منظومة عدالة فعالة، وإعلام مسؤول، وسياسات عادلة تمنع الانفلات الأمني وفوضى السلاح، والتهميش والتطرف، والعبث بمعتقدات الناس وطرائق حياتهم، والتدخل بشؤونهم.
ما يعني أن البحث عن سيناريوهات حماية سوريا يبدأ من إجراءات أمنية مسؤولة، تحمي العادات السورية، وتحترم تسامحها وتآلفها ووسطيتها الدينية، فاستقرار سوريا يعني منع التراخي الأمني تجاه مظاهر التطرف، سواء مارسته الأطراف بشكله السلمي “الدعوي” الفردي، او كجماعات مسلحة، فكلاهما يؤسسان لنتيجة واحدة هي الإخلال بأمن السوريين وسلامهم، سواء جاؤوا من داخل مناطق السلطة، أو عبر الثغرات الأمنية المفتوحة باتجاهات عديدة، ولمصالح متضاربة.
سوريا اليوم في قلب معركة مزدوجة: مع الإرهاب العابر للحدود، ومع من يحاول استخدامه أداة للضغط أو الانتقام، أو خلط الأوراق. والحل يبدأ من الداخل، عبر مصارحة وطنية ومراجعة جريئة لسؤال: من المستفيد فعلاً من تفجير الأمان في سوريا. وهو السؤال ذاته، الذي نردده مع كل خبر عن تجاوزات على حريات الناس: كيف ينجو المعتدون بأفعالهم حين يتسللون إلى البيوت والساحات العامة والمطاعم وأماكن السهر، ويمارسون إرهابهم على الناس باسم الدين مرة، وتحت سطوة السلاح مرات كثيرة؟
الربط بين هذه الجريمة الإرهابية والتهديدات التي تطال دور عبادة هنا أو هناك، وبين تحركات القوى التي خسرت مواقع نفوذها، ليس افتراضًا سياسيًا فقط، بل هو ضرورة تحليلية، في ضوء تجارب مشابهة خاضتها سوريا طوال السنوات الماضية، فالفوضى لم تكن يوماً عفوية، بل كانت أداة فاعلة لأي قوة خائفة من التغيير أو تفتقد شرعية البقاء، أو موظفة من الخارج.
التفجير الأخير في الكنيسة لم يكن يستهدف فقط أرواحاً بريئة، بل وجّه ضربة معنوية لمجتمع يسعى لاستعادة ثقته بنفسه، والعودة من ماض موغل بالعنف والقتل والتهجير، إلى الحياة الحرة الكريمة. وهذه الدماء الطاهرة وضعت سوريا أمام لحظة اختبار حقيقية، ومواجهة مع الواقع لا مفر منه، للإجابة عن تساؤلات من نوع، من هؤلاء الذين يعبثون بأمان بلادنا ويعيشون بيننا، ويعلنون نواياهم الجرمية على وسائل التواصل الاجتماعي من دون خوف من عقاب؟ هل تعرفهم الجهات المعنية؟ هل وثقت قيودهم؟ هل تستطيع أن تحمي أمنها بهم؟ أو تحمينا منهم؟ الإجابة قد تنجي البلاد ممن يريدون إغراقها مجددًا في الفوضى.
لا شك هو يوم حزين، ومن الصعب أن تمارس حياتك، وخصوصاً الصحافية، وكأن ما حدث لم ينتزع منك قلبك، ولم تأخذك الرهبة منه، الجثث المتناثرة، والعيون المتجمدة، ذلك الذهول الذي يعتلي الوجوه، وذلك السؤال الذي يحز حلقك، ماذا تقول لطفل يستلم ما تبقى من جسد أمه، يد تصلّب بأصابعها لتدعو له، أو لأم تحتضن وجه طفل فاتحاً ثغره ليغني أنشودة السلام، أو كيف تبرر قتل رجل يمسح على جبينك زيت الشفاء من الضغائن؟ ماذا تفعل؟ إن لم تشهر كل أسئلتك بوجه هذا العالم بحثاً عن العدالة لكل الضحايا، ولسوريا الضحية الكبرى!