ملخص
ترمب باغت العالم وربما باغت إيران أكثر مما كانت تتوقع. ونعم إيران ليست بصدد الاستسلام لكنها على الأرجح بدأت تتهيأ لتسليمٍ مقنّع تحت غطاء الحوار ومن بوابة الخسارة الميدانية لا الاعتراف الرسمي.
منذ الساعات الأولى لصباح 22 يونيو (حزيران) 2025 بدت المنطقة وكأنها تقف على حدود مشهد استثنائي: الولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترمب نفّذت ضربة مكثفة ضد المنشآت النووية الإيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان مستخدمة منصات جوية وبحرية متقدمة.
الرسالة كانت واضحة: واشنطن قررت التحرك ليس كطرف في نزاع إقليمي بل كقوة عظمى قررت فرض سقف جديد للتهديدات النووية بعملية “مطرقة منتصف الليل” كما وصفها وزير الدفاع الأميركي وأنه تم التحضير لهذه الضربة منذ شهور طويلة بينما لم يمض أكثر من أسبوعين على ضرب إسرائيل لإيران فمن كان ذريعة من؟ هل كانت إسرائيل بوابة للضربة الأميركية أم أن واشنطن وظفت هذه الخطوة كغطاء لخطتها التي كما ذُكر أعدت منذ أشهر.
كان السؤال المطروح عالمياً وفي تلك اللحظة: هل باغت ترمب العالم فعلاً؟ بمعايير التحرك العسكري التقليدي “نعم” إلى حد كبير وبمنطق التحرك السياسي بالتأكيد “لا” فالرئيس الأميركي (الذي كان يبث تصريحات متناقضة إذ أشار إلى أنه بعد مضي أسبوعين ربما سيتحرك وربما لا يتحرك وأنه يراقب وهكذا) فاجأ حتى بعض حلفائه الأوروبيين بعملية نوعية محسوبة من دون مقدمات دبلوماسية طويلة. كذلك لم يصدر عن واشنطن تحذير مباشر ولا تحرك دولي يسبق الضربة. فيما لم تبرر الإدارة الأميركية عمليتها من خلال خطاب حماية الحلفاء أو الدفاع عن أمن إسرائيل. ترمب لم يُشاور لكنه خطط وأدار العملية بحدود دقيقة لتكون صادمة في أثرها ومحدودة في نطاقها.
لكن ما هو أكثر عمقاً من المباغتة هو أثر الضربة على إيران نفسها. فالسؤال الأكثر حساسية اليوم لم يعد يتعلق بطبيعة الرد الإيراني بل بما إذا كان النظام الإيراني عملياً قد بدأ يتحرك على منحدر التسليم الاستراتيجي بصمت.
فالرد الإيراني على رغم استعراضه العسكري من خلال دفعات من المسيّرات والصواريخ على أهداف إسرائيلية لم يلامس مستوى التهديدات التي أطلقها الحرس الثوري قبيل الضربة. إيران التي كانت تتحدث طوال أشهر عن (الرد الساحق) اكتفت بإجراءات رمزية محدودة الأثر. لم تستهدف قواعد أميركية في الخليج ولم تعلن الحرب. بل واصلت الإبقاء على خطوط التفاوض مع الأوروبيين مفتوحة. هل كان ذلك عقلانية؟ ربما. لكن الأرجح أنه كان ناتجاً من حساب استراتيجي دقيق: لا قدرة على مواجهة أميركا في هذا التوقيت ولا مصلحة في فتح جبهات متزامنة.
النظام الإيراني الآن أمام لحظة نادرة من الوضوح الاستراتيجي وإن كان لا يزال يتجنب تسميتها. لقد تلقت الضربة وتأكدت من أن البرنامج النووي غير محصّن وأن المراهنة على صبر الولايات المتحدة انتهت. كذلك تأكدت من أن خطاب (توازن الرعب) لا يجدي ترجمته الواقعية أمام قصف أميركي مباشر ومدروس وحتى ردود الفعل الدولية التي كان النظام الإيراني يراهن على تحولها إلى أداة ضغط بقيت ضمن دائرة التعبير الدبلوماسي من دون اتخاذ موقف حاسم. روسيا ندّدت والصين حذّرت لكن لا أحد أظهر استعداداً عملياً للوقوف إلى جانب طهران على الأرض.
أما داخل إيران فالمعادلة أكثر حساسية. النظام بات محاصراً من ثلاث زوايا: أولها انكشاف دفاعاته الجوية أمام الضربات الأميركية على رغم سنوات من تطوير الردع الصاروخي. ثانيها تفاقم الضغط الداخلي بفعل الأزمة الاقتصادية وتراجع الثقة الشعبية. ثالثها غياب قدرة حقيقية على تحريك الحلفاء الإقليميين في مواجهة موازية. “حزب الله” في لبنان يلتزم الصمت. الحوثيون في اليمن لم ينفذوا أي هجوم واسع والميليشيات العراقية تتريث.
هذا الفراغ من الرد غير المعلن قد لا يعني تساهلاً لكنه يعكس حدود القدرة الإيرانية على استخدام أوراقها في ظل توازنات إقليمية تغيرت كثيراً منذ العقد الماضي. فالخيارات الإيرانية المتوقعة والمقبلة بعد الضربة تحمل تحديات كبيرة وأمام النظام ثلاثة مسارات: التراجع التقني المدروس للبرنامج النووي لكسب الوقت والتهدئة من دون إعلان رسمي ومحاولة تعزيز التحالفات مع الصين وروسيا على رغم محدودية الدعم العملي الذي يمكنهما تقديمه أو التصعيد عبر الوكلاء الإقليميين وهو خيار محفوف بالأخطار في ظل يقظة وتحالفات إقليمية متشددة.
القرار الإيراني سيوازن بين المحافظة على صورة الصمود الداخلي وتفادي تفكك النظام، والمرجح أن طهران ستُبقي على خطاب التحدي بينما تبحث عن طريق للتفاوض التدريجي من موقع أضعف. في المقابل تبدو الولايات المتحدة مصممة على نقل المواجهة مع إيران إلى مستوى استراتيجي جديد. الضربة الأخيرة لا تعني أنها تبحث عن حرب لكنها أيضاً لا تمانع في إدارة احتكاك مستمر إذا كان سيؤدي إلى إضعاف المنظومة الإيرانية من الداخل. هذا ما يبدو أنه خيار ترمب: تدمير البنية النووية من دون احتلال، وتحريك الداخل من دون إسقاط مباشر للنظام، وإرباك الوكلاء من دون تفجير الجبهات.
المسافة الناعمة بين طهران وأنقرة
السعودية ودول الخليج تابعت المشهد بمنتهى الحذر حيث عواصم الخليج تدرك أن الهشاشة الجيوسياسية في المنطقة لا تتحمل مواجهة شاملة. ولهذا فإن الموقف الخليجي اتجه نحو تعزيز الدفاعات وتحقيق أقصى قدر من التنسيق الأمني مع واشنطن بالتوازي مع محاولة ضبط الخطاب السياسي نحو التهدئة. هذا ليس تناقضاً بل تعبير عن واقعية استراتيجية: قبول الردع الأميركي من دون الانجرار إلى تحالف حرب مفتوحة.
أما أوروبا فعلى رغم إدراكها أن إيران تجاوزت خطوط الاتفاق النووي السابق إلا أنها لا تزال تفضّل المسار التفاوضي، لكنها اليوم تفاوض على طاولة مختلفة. طهران بعد الضربة ليست كما قبلها. وواشنطن لم تعد تقبل العودة إلى صيغة الاتفاق القديم. وهذا ما يعني أن المرحلة المقبلة ستكون تفاوضاً من موقع الضعف بالنسبة لإيران أو على الأقل من موقع العجز عن الفرض. هو ليس استسلاماً لكنه بالتأكيد ليس استمراراً لمعادلة الندية السابقة.
هل هدأت وتيرة التوتر العالمي بعد الضربة الأميركية؟ نعم وربما لا حيث بالنظر إلى معطيات الساعات التي أعقبت الضربة الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية يمكن القول إن العالم بدأ بالفعل يتنفس ببطء لكن ليس براحة كاملة. هذا القلق العسكري المربك منح العواصم الكبرى ربما فرصة لالتقاط الأنفاس بعد أيام من ترقب مأزوم وقلق حقيقي من انزلاق غير محسوب قد يُشعل المنطقة بأكملها، إذ إن الضربة كانت محسوبة بدقة: قوية بما يكفي لتدمير البنية النووية لكنها محدودة بما يكفي لتجنب جر المنطقة إلى حرب شاملة.
إيران في محدودية ردّها حتى الآن تؤكد أنها تلقّت الرسالة وتدرك أن أي تجاوز للخط الأحمر الأميركي قد يُكلفها كثيراً. ومع أن التصريحات الإيرانية تتسم بالحدة إلا أن السلوك الميداني بدا غير ذلك، وهو ما يعكس محاولة لاحتواء آثار الضربة من دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة. وما حدث في 22 يونيو غيّر المعادلة.
إن أخطر ما في الضربة الأميركية ليس ما أصاب المنشآت النووية الإيرانية بل ما أصاب نظرية الردع الإيرانية ذاتها. فبعد سنوات من الخطاب العالي والثقة بالرد تلقت إيران ضربة لم ترد عليها فعلياً، وهذا ما يُفقدها جزءاً من صورتها أمام جمهورها وأمام من تعتبرهم محور المقاومة، وهذا الفقد لا يُعالج بإعلام تعبوي أو بيانات عسكرية بل بإعادة تعريف الواقع كما هو: إيران أُجبرت على الوقوف من دون رد وهذا ليس تفصيلاً عابر.
المعادلة الجديدة واضحة: ترمب أعاد ضبط حدود اللعبة مع إيران خارج سقف التحالفات التقليدية وبعيداً من المؤسسات متعددة الأطراف. الضربة تحمل توقيعه السياسي المباشر لكنها تعكس أيضاً روح الإدارة الأميركية: فعل مفاجئ محدود الأمد بعيد الأثر.
وهنا تظهر الإجابة الكبرى: نعم ترمب باغت العالم وربما باغت إيران أكثر مما كانت تتوقع. ونعم إيران ليست بصدد الاستسلام لكنها على الأرجح بدأت تتهيأ لتسليمٍ مقنّع تحت غطاء الحوار ومن بوابة الخسارة الميدانية لا الاعتراف الرسمي. وما بين المباغتة والتسليم تُعاد كتابة معادلة القوة في الشرق الأوسط لا بالحرب بل بالإجبار الاستراتيجي الذكي.