في الحروب الكبرى، ثمّة من يُلقي القنابل، وثمّة من يُدفن تحتها. لكن في الشرفات البعيدة، حيث لا دخان ولا ركام، ثمّة وجوه معلّقة على شاشة، وقلوب تسكن جبهتين، وتخاف من ثلاث جبهات.
منذ 13 حزيران، لم تُعلن حربٌ رسميّة بين إيران وإسرائيل. لكن كل شيء على الأرض يقول العكس. وفي لبنان ثقل الحرب يتدلّى من كل سقف، رغم أن البلد ليس طرفًا مباشرًا في الصراع، ولا هدفًا مباشرًا لها. لكنه -كعادته- المنصة التي يُفرَغ عليها فائض العنف الإقليمي، والمرآة التي تعكس كل ارتباك.
وفي هذه الزاوية الملتبسة، يعيش عشرات -وربما مئات- من الإيرانيين. لا هم في قلب المعركة، ولا هم على هامشها. بين بلدهم الذي يُقصف، وبلد إقامتهم الذي ينتظر مصيره، يراقبون بصمت ما يُقال باسمهم، وما يُراد منهم أن يكونوا عليه. وفي الظلّ، يعيشون التمزّق: من هم؟ أين يجب أن يكونوا؟ وهل يكفي أن يكونوا بشراً… في زمن الاصطفافات؟
“أنا وين بدي كون؟”
حين وصل علي رضا إلى بيروت قبل 13 عاماً، لم يكن يفكّر بأكثر من فرصة عمل. ترك مدينته أصفهان، للعمل في لبنان حيث قرّر أن يكمل دراسته الجامعية أيضاً. شيئًا فشيئًا، نسج لنفسه حياة لم تكن في الحسبان: تزوّج من امرأة لبنانية، وأنجب أطفالاً، وفتح مشروعًا، واستقرّ بشكل دائم، كما أكد لـ”المدن”.
عندما اندلعت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، كان علي لا يزال في بيروت. لم يُفكّر بالمغادرة، بل شعر، كما يقول، أن من واجبه أن “يقف إلى جانب الحق”. ومع “انتهاء” الحرب، سافر في زيارة إلى إيران، وبدأ يُخطّط للعودة والاستقرار هناك بشكل دائم، خصوصاً بعد أن تضرر محلّه التجاري، وتوقفت مشاريعه في لبنان.
لكن ما لم يكن في الحسبان، أن تُباغته الحرب من الجهة الأخرى. فهذه المرّة، لم تكن الضاحية الجنوبية هي الهدف، بل إيران نفسها. الضربات الإسرائيلية المتلاحقة، ثم الردود الإيرانية، قلبت خطّته رأسًا على عقب: بدلًا من إكمال طريق العودة إلى أصفهان، بدأ يفكّر بالاتجاه المعاكس، أي بنقل والده ووالدته من إيران إلى لبنان.
يتابع ما يجري في بلده بقلق، ويقول: “أتابع الأخبار طوال الوقت، لا أنام. وأتواصل مع أهلي في إيران باستمرار، رغم الانقطاعات المتكررة في الإنترنت، لكننا نتمكّن دائمًا من الاطمئنان على بعضنا البعض”.
بين مكانين وولاءين
اليوم، يعيش علي حالة من التمزّق بين مكانين وولاءين. ويعبّر لـ”المدن” عن هذا الشعور: “أين يجب أن أكون؟ لدي واجبات تجاه أولادي وعائلتي هنا، وواجبات أكبر تجاه بلدي. أشارك في مجموعات للإيرانيين المقيمين في لبنان، ونتساءل معًا: ماذا يمكننا أن نفعل؟ كيف يمكننا العودة؟ أو المساعدة؟ بدأت أتابع كيف يمكنني الذهاب والمساهمة بأي شكل: في الإسعاف، أو اللوجستيات، أو أي مجال آخر”.
لكنّ الانقسام في حالة علي رضا لا يقتصر على الداخل الشخصي، بل يمتدّ إلى محيطه الاجتماعي. فبالنسبة إلى كثير من اللبنانيين، لا يُنظر إلى الإيراني المقيم في البلاد كفرد مستقل مثل أي شخص آخر، بل غالبًا ما يُرى كامتداد لسياسات بلده، أو كـ”صوت إيران” وربما “مندوبها” غير المعلن. وقد عانى علي من هذا التصنيف لسنوات. ويعبر علي عن ذلك بالقول: “كنت أجلس في المقاهي وأستمع إلى كلام جارح عن إيران. كأنني أمثّل الدولة، كأنني صاحب القرار أو من ينفّذ. لم يكن هناك فصل بين الإنسان والسياسة. لكن اليوم… تغيّر الوضع”.
فمع التصعيد الأخير والردود الإيرانية على الضربات الإسرائيلية، شهد علي تبدّلًا في النظرة تجاهه، ولو بشكل ظرفي. “الشعب اللبناني حماسي، ويريد أن يردّ بسرعة. وكان هناك كثير من الحديث: لماذا لم تردّ إيران؟ لماذا تخلّت عنّا؟ ثم، فجأة، تغيّر كل شيء. الأشخاص عينهم بدأوا يقولون إن إيران ردّت، وإننا لسنا ضعفاء”.
ويختصر علي كل هذا التحوّل بجملة واحدة “كأنني استعدت اعتباري. شعرت بنوع من الفخر، وبعزيمة داخليّة. بل بدأت، أُبادر وأمازح أصدقائي، وأقول لهم: هل رأيتم؟ لسنا صامتين دائمًا”.
“مش لازم نعتذر عن جنسيتنا”
لكن علي ليس وحده في هذا التمزق. فرغم محاولة “المدن” التواصل مع عدد لا بأس به من الإيرانيين المقيمين في لبنان، رفضوا الإدلاء بأي تصريح. وحدها امرأة إيرانية، متزوجة من لبناني وتعيش في بيروت منذ عام 2011، قبلت التعبير عن رأيها، بشرط إبقاء اسمها مغفلاً. وتقول: “أحيانًا أشعر أننا مطالبون بالاعتذار عن جنسيتنا. كأنّ مجرد كوننا إيرانيين هو تهمة جاهزة. إذا وقع أي حدث، نخاف أن نُتَّهم. وإذا ردّت إيران، نصبح أبطالًا. لكن بين الحالتين، نحن ضائعون، لا نعرف كيف نُعرّف عن أنفسنا، ولا أين نقف تمامًا”.
تُتابع حديثها وقد طغى عليه القلق: “منذ بدأت الحرب، كل غارة هناك، أشعر بها في صدري. وكل خبر عاجل، يجعلني أتحسّس مكاننا في هذه الخريطة المعقّدة… نحن لسنا داخل الحرب، لكننا لسنا خارجها أيضًا”. ثم تختم كلامها بنبرة هادئة، ثابتة: “ما رح أكره إيران، لو العالم كلّه كرِهني بسببها. هذه هويتي، وجزء مني. لكنني أيضًا لست ناطقة باسم أحد”