بين صمت مفروض وغضب مكبوت، يشعر كثر من مسيحيي سوريا بأنهم باتوا مكشوفين، لا أمام “العدوّ” فقط، بل أمام دولة لم تعد تمنحهم حتى صفة “الشهيد”. في ظلّ هذا الشعور المتنامي بالعزلة، يبقى السؤال مفتوحاً: هل حقاً هناك مكان للجميع في سوريا؟
“لو وقع الانفجار في الشارع، لكان بإمكاني استيعابه، لكن أن يحدث داخل الكنيسة والناس تصلّي؟! كلّ من كان هناك من كبار السنّ الذين يرتادون الكنيسة للصلاة، أو من شابّات شبّان يشاركون في تدريبات الكشّافة”، تقول راما (اسم مستعار)، بعد عودتها مع عائلتها من عزاء سيمون حداد، أحد ضحايا انفجار كنيسة مار الياس، الذي أسفر حتى الآن عن مقتل 27 شخصاً، وإصابة أكثر من 60 آخرين، بحسب آخر إحصاءات وزارة الصحّة السورية.
كان سيمون، كما اعتاد، يجلس في الصف الأخير داخل الكنيسة، عندما دخل الانتحاري وفجّر نفسه، ما تسبّب في موته مباشرة، وفق ما روت بناته لراما.
تعيش راما، ككثير من مسيحيي سوريا اليوم، حالة من الصدمة والخوف، بعد التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار الياس في حيّ الدويلعة في دمشق.
وزارة الداخلية السورية أعلنت أنها ألقت القبض على خليّة تابعة لـ”تنظيم الدولة الإسلامية/ داعش” ومرتبطة بتفجير الكنيسة، في حين لم يتبنَّ التنظيم التفجير رسمياً، فيما انتشرت بيانات غير موثقة تزعم أن فصيلاً اسمه “أنصار السنّة” تبنى التفجير!
وعلى رغم إعلان القبض على الخليّة المتورّطة، والتطمينات المتكرّرة، والزيارات الرسمية التي حرص عليها مسؤولو الحكومة، واتّصال الرئيس الانتقالي أحمد الشرع نفسه بأهالي الضحايا، لا يزال جوّ مشحون يسود أزقّة الحيّ، ويتعاظم شعور السكّان بعدم الأمان.
لم تكن الكنيسة الهدف الأولى الذي يطاول مجموعات مختلفة في سوريا. هذا الاستهداف يأتي بعد مجازر الساحل السوري التي طاولت علويين وبعد توترات في السويداء مع المجموعات الدرزية، عدا عن حوادث قتل طائفي شبه يومية.
“المسيحيون لم يشعروا بالاطمئنان حتى الآن”
الدويلعة حيّ دمشقي يقع بمحاذاة حيّ باب شرقي الشهير، وتقطنه غالبية مسيحية قدمت من محافظات مختلفة من سوريا. يتّسم الحيّ بعمران عشوائي وبظروف اقتصادية صعبة، كانت السبب الرئيسي في نزوح سكّانه من قراهم إلى العاصمة، بحثاً عن فرص عمل وحياة أكثر استقراراً.
اليوم، يعيش حيّ الدويلعة صدمة عميقة. معظم منازله فُتحت لاستقبال المعزّين، وعلّق شبّانه شرائط بيضاء إعلاناً للحداد. وبين الدموع والعويل، يتهامس السكّان، جهراً أو سرّاً، بمخاوفهم التي تفجّرت مع استهداف الكنيسة، والسؤال الذي يخيّم على الجميع: “لماذا نحن؟”. ويذهب البعض أبعد من هذا، ويحاولون تفسير التفجير بربطه ربما بسيّارة جالت في الأحياء ورفعت مكبرات تدعو الى اعتناق الإسلام، والتي طردوها قبل شهرين مردّدين: “هل جاؤوا للانتقام منا؟”.
“برأيي، تقع المسؤولية على الحكومة. ألم يقولوا إننا أصبحنا دولة؟ فأين وزارة الداخلية؟ أين أجهزة الاستخبارات؟ أين هو عملهم؟ لماذا يُترك المواطنون في مواقف كهذه من الأساس؟ وإن كانت الجهات المعنيّة قد تمكّنت سريعاً من القبض على المنفّذين والمخطّطين، فهذا يعني أن لديهم القدرة على منع ما حدث. السؤال الحقيقي إذاً: هل وقع ما حدث برضى أصحاب القرار؟ أم أنه نتيجة لتساهل من عنصر منفلت؟”، يقول مارسيل س، طالب في السنة السادسة في كليّة الطبّ البشري.
مارسيل ليس الوحيد الذي يشعر أن السلطة الجديدة لم تؤدِّ واجبها، إذ تصاعدت في الأوساط المسيحية أصوات تتّهم السلطة بالتقصير، وظهر الأرشمندريت ملاطيوس شطاحي ليؤكّد أن المشكلة بدأت عندما فشلت الدولة في حماية الناس، مما كانت تُسمّى “حوادث فردية”، وقال: “بعد السكوت عمّا كان يُسمّى أحداثاً فردية، ما بفاجئني إنو نحنا وصلنا لهون”.
تقول راما: “في العزاء، كان الجوّ مشحوناً بالغضب تجاه الحكومة، لكنّ الناس تخشى التعبير. وعندما دخلت مجموعة من الهيئة، خيّم الصمت، ولم يجرؤ أحد على إظهار استيائه، لأنهم خائفون”.
تجلّى هذا الغضب لاحقاً في مظاهرة خرجت ليلاً، رفعت شعار: “سوريا حرّة حرّة، والشيشاني يطلع برا”، إذ يحمّل السكّان المسؤولية للعناصر الأجنبية المسلحة المنخرطة في الجسم الأمني للسلطة الجديدة بشكل أساسي.
وتضيف راما: “المسيحيون لم يشعروا بالاطمئنان حتى الآن، وكلّ ما تفعله الحكومة هو محاولة تلميع الصورة سياسياً. منذ بداية السقوط، كنت أطمئِن عائلتي وأقاربي وأُقنعهم بأن هذه الحكومة ليست متطرّفة، لكنني اليوم لم أعد قادرة على قول ذلك، لم أعد مقتنعة بكلامي أصلاً”.
“رفض السلطات تسمية الضحايا بالشهداء، والخوف من تلبية هذا الطلب الشعبي البسيط، يوضحان بشكل جليّ التمييز بين أبناء البلد، والتعامل مع غير المسلم كمواطن من درجة ثانية”.
يتعاظم الشعور لدى الكثير من أبناء الطوائف بأنهم مجرّد أوراق تستخدمها السلطة بحسب ما تقتضيه مصلحتها، يقول مارسيل: “لا أستطيع إلا أن ألاحظ أن معظم مظاهر التعاطف بدت مصطنعة. ليس لأنني طائفي؛ فأصدقائي في غالبيتهم ليسوا مسيحيين، لكنّ هذه الضجّة الإعلامية لم نشهدها مثلاً خلال مجازر الساحل، ولم نرَ وزيرة الشؤون الاجتماعية تزور المقامات التي تهدّمت هناك”.
ويضيف: “ناهيك بالضعف المهني لقناة الإخبارية السورية، التي تُثبت فشلها في كلّ حادثة، وتنقل الأخبار بطريقة تعزّز الخطاب الطائفي بدل أن تساهم في تهدئته”.
يُذكر أن ما عرضته قناة “الإخبارية السورية” أثار موجة غضب واسعة، بخاصّة بعد ظهور محلّل سياسي قال إن ما حدث للمسيحيين يعود إلى “عدم انضمامهم إلى حلف الأقليات”، في إشارة إلى العلويين والدروز، ما فُهم على أنه تبرير ضمني للهجوم بدلاً من إدانته بوضوح.
مارسيل هو واحد من آلاف الشباب الذين التهمت الحرب سنوات حياتهم، وكان يعلّق آمالاً كبيرة على التحرير والتغيير، لكن ما بعد تفجير كنيسة مار الياس ليس كما قبله، يقول: “أكثر ما يقلقني الآن هو الخوف من تكرار ما حدث، وأن نكون نحن الضحايا في المرّة المقبلة. أنا وأصدقائي نذهب غالباً للصلاة، ثم نخرج بعدها للتنزّه، وكان من الممكن أن نكون مكان أيّ من الشهداء. في هذه اللحظة، أفكّر جدّياً في السفر”.
ليس كلّ السوريين “شهداء”!
من الجدالات التي برزت مباشرة بعد التفجير، كان رفض الحكومة إطلاق صفة “شهداء” على ضحايا كنيسة مار الياس، على رغم استخدامها هذه الصفة في بيانات سابقة لضحايا ينتمون إلى الطائفة السنّية. فقد خلا بيان رئاسة الجمهورية هذه المرّة من أي إشارة إلى كلمة “شهيد”، على خلاف بيانات مشابهة سابقة استُخدمت فيها الكلمة بشكل واضح.
وعلى رغم تأكيد كثيرين أن كلمة شهيد قد لا تعنيهم بسبب خلفيّتها الأيديولوجية، لكن في سياق اليوم، فإن اختيار الحكومة إطلاق هذه الصفة على فئة من المواطنين من ديانة معيّنة، ورفضها منحه لفئة من ديانة أخرى، يُعتبران أمراً غير بريء قطعاً.
يوافق مارسيل هذا الرأي، قائلاً: “رفض السلطات تسمية الضحايا بالشهداء، والخوف من تلبية هذا الطلب الشعبي البسيط، يوضحان بشكل جليّ التمييز بين أبناء البلد، والتعامل مع غير المسلم كمواطن من درجة ثانية”.
وبحسب الكاتب والباحث روجيه أصفر، تُلاحظ ثلاث مسائل في هذا السياق: أولاً، الامتناع عن استخدام كلمة “شهيد”. ثانياً، عدم الترحّم على الضحايا. وثالثاً، استخدام عبارة “الطائفة” المسيحية.
يقول روجيه: “يمكن القول إن هذه الأمور الثلاثة تنبع من خلفيّة دينية إسلامية معيّنة، محافظة أو متشدّدة، ترى أن صفة “الشهيد” حكر على المسلمين وفي حالات محدّدة فقط. وربما لا تُمنح صفة “الشهيد” لجميع المسلمين حتى. في هذا السياق، يبدو أن هناك “منازل للشهادة”، والمسيحيون في نظرهم في أدنى منزلة، لا نستحقّ حتى كلمة “شهيد”.
النقطة الثانية، بحسب أصفر، تتعلّق برفض الترحّم على غير المسلمين، بناءً على تفسيرات دينية تعتبر الرحمة على غير المسلم لا تجوز. أما الثالثة، فترتبط برؤية حصرية للدين، ترى أن الإسلام هو الديانة الوحيدة، بينما تُعتبر المعتقدات الأخرى مجرّد “طوائف” أو “جماعات” لا تحظى بالمكانة ذاتها.
يقول أصفر: “قد يكون من المقبول أن تصدر مثل هذه المواقف عن أشخاص عاديين، أي أن يرفضوا إطلاق كلمة شهيد، ويمكن مناقشتهم في هذا الإطار. لكن عندما تصدر عن الدولة، أو عن شخص مسؤول يمثّل مؤسّسة رسمية، يصبح الأمر مختلفاً تماماً، لأنه لا يتعامل مع المواطنين على أساس وطني، بل على أساس ديني، ويمارس تمييزاً واضحاً بين المواطنين بناءً على دينهم أو طائفتهم”.
بين صمت مفروض وغضب مكبوت، يشعر كثر من مسيحيي سوريا بأنهم باتوا مكشوفين، لا أمام “العدوّ” فقط، بل أمام دولة لم تعد تمنحهم حتى صفة “الشهيد”. في ظلّ هذا الشعور المتنامي بالعزلة، يبقى السؤال مفتوحاً: هل حقاً هناك مكان للجميع في سوريا؟