فارس خشان
قد يكون إضفاء الطابع الديني على الحرب القذرة التي تضع إسرائيل في مواجهة حركة “حماس” أكبر هديّة يتم تقديمها للدولة العبريّة، فهي، قبل عدوها، تحتاج إلى تبرير إجرامها الذي فاق كل تصوّر، بالبعد الديني، بحيث تحوّل المجازر التي ترتكبها بحق المدنيين إلى “ضرورة وجوديّة” يمكن إسنادها إلى نصوص توراتيّة، وفق ما سبق أن فعل رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو.
ولا يخلو نص ديني من نصوص عنفيّة. حتى المسيحيّة التي لا ترد في إنجيلها نصوص مماثلة، تجد مرجعياتها العنفيّة، عند الحاجة، في “العهد القديم” الذي هو جزء لا يتجزّأ مع “العهد الجديد”( الإنجيل) من مكوّنات “الكتاب المقدس”.
ومنذ اندلاع حرب “طوفان الأقصى” لم يُبعد دعائيّو “حماس” الطابع الديني عن خطابهم التحريضي، على الرغم من أنّه لم يُجدِ نفعاً إسلاميّاً، فالجماهير في معظم الدول العربيّة، بدت الأكثر خمولاً، مع أنّها الأكثر تلقياً للمادة الإعلامية المعادية لإسرائيل وأفعالها الموبوءة. هذا لا يقتصر، بطبيعة الحال، على الدول العربيّة الموصوفة بأنّها “معتدلة” بل انسحبت على الدول التي سقطت بقبضة “محور المقاومة”، فسوريا، على سبيل المثال، لم تشهد موجات شعبية آتية من إيران والعراق إلى جبهة الجولان أو جبهة جنوب لبنان.
في الواقع، لقد أنتج الخطاب الديني مشكلة للفلسطينيّين، إذ إنّ إسرائيل استندت إليه لتحريض غير المسلمين في العالم على الفلسطينيّين، وتصويرهم كما لو أنّهم خطر على العالم يوازي خطر “داعش”، فيما أصيبت دول عربيّة بارتباك واضح في التعاطي مع الملف الفلسطيني، إذ بدا أنّ انتصار “حماس” في ما لو قدّر له أن يحصل، لن يكون سوى انتصار لمكوّنين لا ترتاح إليهما هنا وتحاربهما هناك: “الإخوان المسلمون” والتنظيمات العسكرية الموالية للجمهورية الإسلاميّة في إيران.
وكان إضفاء هذا الطابع الديني على مقاومة الفلسطينيين في غزة للجيش الإسرائيلي، مبرراً لكثيرين في مواقع القرار في العالم لاعتماد معادلة يستحيل أن توقف الحرب: القضاء على “حماس” هدف لا بد من تحقيقه، شرط ألّا يتحوّل إلى حرب إبادة للمدنيين الفلسطينيّين.
وقد زاد الطين بلّة أنّ بعض المنظرين في العالم، على الرغم من معارضتهم لحرب إسرائيل على غزّة، انحرفوا، باعتمادهم نظرية صراع الحضارات إلى مستوى التأكيد أنّ المواجهة الإسرائيليّة – الفلسطينيّة إنّما هي مواجهة بين اليهود، من جهة، والمسلمين، من جهة أخرى. وفي هذه التنظيرات وضع هؤلاء غالبيّة المسيحيين إلى جانب اليهود، على اعتبار أنّ الحضارة الغربيّة، كما يحلو للكثيرين توصيفها، ليست سوى نتاج تلاحم الثقافتين اليهودية – المسيحية. وانطلاقاً من مفهوم حرب الحضارات هذا راح البعض يعمل لمصلحة إسرائيل على اعتبار أنّه إذا كان المسلمون هم “أبناء العم إسماعيل”، فإنّ اليهود هم إخوة، لأنّهم والمسيحيّين “أبناء إسحق”.
وقد وجد العلمانيّون الذين يرفضون إضفاء الطابع الديني على العمل السياسي أنفسهم خارج سياق الاصطفاف، بحيث وقفوا من هذه الحرب، متى خفتت مجازرها، على الحياد، لأنّ “مرتكزاتها” لا تعنيهم أبداً.
وبالفعل، فإنّ من يقارن بين حجم التظاهرات في العالم، احتجاجاً على القرار الأميركي باجتياج العراق، والتظاهرات التي سارت ضد الحرب الإسرائيليّة على غزة، يجد فارقاً مذهلاً لمصلحة العراق، في حجم الاعتراض.
وفي الواقع، إنّ القضية الفلسطينية، على عكس ما يعمل عليه دعائيّو حركة “حماس” و”محور المقاومة”، أوسع بكثير من صراع على الحق بين مسلمين ويهود، إذ إنّه بين تيّارين كبيرين، الأوّل يعاني من مشروعيّة إقامة دولته وتمددها خارج إطارها المرسوم في القرار 181 الصادر عن الأمم المتحدة، والثاني يجاهد من أجل أن يتمكن من أن يعيش في دولة ضمن حدوده المعترف بها دوليّاً.
إنّ التركيز على اعتبار الحرب مع إسرائيل صراعاً بين أرض اغتصبها اليهود وتعود ملكيّتها إلى المسلمين لا يخدم القضية الفلسطينيّة، بل يصب في مصلحة الدعاية الإسرائيليّة التي طالما جهدت لنفي الحق الفلسطيني بنسب الشعب الفلسطيني إمّا إلى المسلمين الذين لديهم أراض على مد النظر وإمّا إلى العرب الذين لديهم دول كثيرة، في حين أنّ اليهود ليس لديهم سوى هذا المكان الضيّق ليعيشوا فيه بأمان على امتداد الكرة الأرضيّة.
باختصار، إنّ “أسلمة” المقاومة الفلسطينية هي مطلب إسرائيلي لأنّها تعين تل أبيب على الانقضاض على الحقوق الفلسطينية، من خلال تخفيض الاهتمام العربي إلى حدّه الأدنى، من جهة، وتمكين الدعاية الصهيونية من التلاعب بعاطفة شعوب العالم، من خلال “دعشنة” الفلسطينيّين، من جهة أخرى.
إنّ محاربة عدو مثل إسرائيل لا يحتاج إلى القوة والخدعة فحسب بل إلى أدبيات جامعة. الأدبيات الدينيّة ليست كذلك، فالقرون الوسطى ولّى عصرها!