ماجد كيالي
أثارت تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن أخيراً الجدل في شأن حقيقة موقف الإدارة الأميركية من حرب إسرائيل الوحشية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، إذ في الوقت الذي كان يتحدث فيه عن خلافه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في شأن اليوم التالي بعد الحرب، وضرورة فتح أفق سياسي يتضمن إقامة دولة للفلسطينيين، استخدمت إدارته حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي يوم (8/12) لإجهاض مشروع قرار لوقف تلك الحرب، ثم عادت وأكدت ذلك في رفضها قرار الجمعية العمومية في هذا الشأن (12/12)، بل إنها أرفقت ذلك بمواصلة شحنات أسلحة وذخيرة إلى إسرائيل في التفاف على قرار الكونغرس الذي وضع قيوداً على ذلك؛ ضمن المناكفات الداخلية بين الجمهوريين والديموقراطيين.
واضح أن إدارة بايدن، كغيرها من الإدارات الأميركية السابقة، لا تنظر إلى عملية التسوية إلا من زاوية المصلحة الإسرائيلية، بمعنى أنها لا تأخذ على محمل الجد حقوق الفلسطينيين ومصالحهم، بدلالة أن خلاف بايدن مع الحكومة الإسرائيلية في مرحلة ما قبل الحرب كان على أشده، لكن فقط بسبب سعي تلك الحكومة التي تعرّف، بين حلفائها في الدول الغربية بأنها الأكثر تطرفاً في إسرائيل منذ إقامتها، لتغيير النظام السياسي فيها، لمصلحة تغليب البعد الديني والطابع اليهودي فيها على حساب طابعها كدولة علمانية وليبرالية وديموقراطية (نسبة لمواطنيها). وقد وصل الأمر إلى درجة أن الرئيس الأميركي لم يوجه دعوة لنتنياهو لزيارة البيت الأبيض في واشنطن، طوال العام الماضي، أي منذ فوزه في الانتخابات وتشكيله حكومة (أواخر عام 2022) مع اليمين القومي والديني المتطرف، وأمثال سمتريتش وبن غفير، إلا أنه تغاضى عن كل ذلك وذهب من تلقاء نفسه إلى إسرائيل للقاء نتنياهو، والتعبير له عن دعم الولايات المتحدة المطلق في حربه في غزة، بدعوى استئصال حركة “حماس”.
ومعلوم أن بايدن الذي يعتبر نفسه صهيونياً، وإن لم يكن يهودياً، ذهب إلى أبعد من ذلك باعتباره إسرائيل ضحية، من حقها وحدها الدفاع عن النفس، متجاهلاً الفلسطينيين، ضحية إسرائيل الاستعمارية العنصرية العدوانية، ومغيباً حقوقهم كبشر، وضمنها حق الحياة والحرية والعدالة والمساواة؛ عدا كلام ناعم للاستهلاك، عن ضرورة تجنّب إسرائيل استهداف المدنيين، ورفض إدارته ضم إسرائيل أراضيَ من قطاع غزة، أو تشريد جزء من سكانه، أو إعادة احتلاله.
على أي حال، لا تفسير لتصريحات بايدن تلك سوى محاولته استعادة الصدقية التي فقدتها إدارته في صورتها في الرأي العام العالمي، وحتى لدى حلفائه في الدول الغربية، وهو ما تبين من التصويت على قرار وقف إطلاق النار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ إن فرنسا وكندا واليابان وأستراليا صوتت بالموافقة على القرار الذي استحوذ على موافقة على 153 دولة، أما بريطانيا وألمانيا وإيطاليا فقد امتنعت عن التصويت، وفقط عشر دول، بما فيها إسرائيل والولايات المتحدة، اعترضت على القرار؛ ما يضعها في خانة تشبه خانة روسيا التي وجدت نفسها معزولة في تصويتين في الجمعية العامة على قرار يدين احتلالها لأوكرانيا، واستهدافها المدنيين فيها.
ومن نتائج التصويت يتبين أن ثمة افتراقاً، أو تصدعاً، في جبهة الدول الغربية، الحليفة للولايات المتحدة، إزاء القضية الفلسطينية، وهو يوازي التصدع الثاني المتمثل بانشقاق الرأي العام في الدول الغربية ذاتها عن المواقف التي تتخذها الحكومات الغربية الداعمة لإسرائيل.
ثمة عوامل دفعت بايدن لإظهار مسافة بين مواقف إدارته ومواقف نتنياهو، ضمنها، أولاً، التحولات في موقف الدول الغربية التي كانت محضت دعمها بالمطلق لسياسات نتنياهو الحربية ضد الفلسطينيين، لمصلحة التأني واتخاذ مواقف متوازنة في هذا الشأن. ثانياً، محاولة الاقتراب من المزاج الشعبي العام الذي عبرت عنه التظاهرات العارمة، غير المسبوقة، في عواصم الدول الغربية الكبرى ومدنها، ومن ضمنها في واشنطن ونيويورك وسان فرانسيسكو وبرلين ولندن وباريس ومدريد وروما وفيينا، بخاصة أن تلك التظاهرات شهدت مشاركة لافتة وحماسية من شخصيات وجماعات يهودية. ثالثاً، انتهاء الزمن السياسي لنتنياهو، ما يفترض النأي عنه، وذلك بسبب انخفاض شعبيته، وعلى خلفية التصدع الحاصل في إسرائيل قبل الحرب، والذي تفاقم بتحميله مسؤولية التدهور الأمني الكارثي الذي أدى إلى تلك الحرب. رابعاً، طول أمد الحرب في غزة، وارتفاع الأكلاف الإسرائيلية فيها، وعدم قدرة إسرائيل على السيطرة، بنتيجة استمرار قدرة المقاومة على القصف والاشتباك، وعدم تمكن الجيش الإسرائيلي من الإفراج عن المحتجزين والأسرى. خامساً، منذ فترة ثمة انزياح في الرأي العام الأميركي لمصلحة التعاطف مع الفلسطينيين، وهو انزياح غير حاسم حتى الآن، لكنه بالقياس للسابق يشكل تقدماً، لا سيما في أوساط الشباب، وضمن الحزب الديموقراطي.
رغم كل ذلك، والضرائب الكلامية يدفعها بايدن للرأي العام بخصوص الفلسطينيين، إلا أن إدارته لا تخفي حقيقة موقفها في الاستمرار في دعم حرب إسرائيل في غزة، وهذا لا يتناقض مع تصريحاته في شأن ضرورة إجراء تغييرات في الحكومة الإسرائيلية، واعتباره أن إسرائيل بدأت تفقد الدعم الدولي بسبب الحرب على غزة، وأن سلامة اليهود باتت على المحك، ومطالبته بحل الدولتين، الذي لم تفعل الولايات المتحدة في كل الإدارات السابقة أي شيء بشأنه للضغط على إسرائيل، على امتداد ثلاثين عاماً من عمر اتفاق أوسلو (1993)، علماً أنها الراعي والضامن لعملية السلام المفترضة بين إسرائيل والفلسطينيين.
مفهوم أن ثمة فارقاً، أو خلافاً، بين رؤية إسرائيل ورؤية الولايات المتحدة لفكرة الدولة الفلسطينية، وحتى لفكرة وقف الاستيطان في الضفة والقدس، فهذه ترى أن إسرائيل في مواقفها تلك تضع نفسها في دائرة تهديدات قريبة وبعيدة، سياسية وأخلاقية وأمنية، ما يستوجب منها، انطلاقاً من فكرة قديمة لدى مراكز صنع القرار فيها مفادها “إنقاذ إسرائيل رغم أنفها”، بيد أنها لا تقوم بشيء عملي، إذ ليس في الوضع الفلسطيني والعربي والدولي ما يدفعها إلى ذلك. في المقابل، فإن أوساط اليمين الإسرائيلي القومي والديني، على غرار نتنياهو وسمتريتش وبن غفير، ترى في إقامة دولة فلسطينية، مهما كان حجمها، انتحاراً لدولة إسرائيل.
مع هذا الفارق فإن الطرفين متفقان على اليوم الحالي، وإن اختلفا على اليوم التالي، فبحسب المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية ليئور بن دور، فإن “تصريحات بايدن نصائح لإسرائيل لا إملاءات… أي حديث عن الخطط السياسية المستقبلية… في غزة لن يكون ممكناً من دون القضاء عسكرياً وسلطوياً على حماس”.