تقترب مدة عمل اللجنة التي شُكِّلت بقرار من الشرع للتحقيق في «أحداث الساحل السوري» من نهايتها، إذ ينبغي أن يَصدُرَ تقريرها النهائي قبل العاشر من تموز القادم. وبينما ستكون هناك أهمية وقراءات سياسية وحقوقية لفحوى التقرير، فإن ما حدث في الساحل السوري في آذار (مارس) لا يمكن أن يمضي بمجرد صدور التقرير أياً تكن نتائجه وقراءاتها، بل هو استحقاقٌ سيبقى يواجه المجتمع والسياسة والثقافة في سوريا ما لم يُنظَر فيه ويُناقَش بوصفه امتحاناً وطنياً. كمساهمة في ذلك، تنشر الجمهورية على مدى يومين ملفاً عن مجازر الساحل وظروفها وتبعاتها، في محاولة للإحاطة ببعض أبعاد تلك المأساة الوطنية.
هذا المقال هو الرابع والأخير في الملف، ونُشر قبله مقال صادق عبد الرحمن «أحداث آذار: المواجهة والمجازر»، ومقال إبراهيم زرقه «منكوبو آذار في الساحل السوري وإغاثتهم»، ومقال زينة شهلا «زيارة إلى بانياس: حزن ماثل وعدالة غائبة».
* * * * *
«مجزرة في الصنوبر»؛ رنَّ إشعار على هاتفي وأنا أتناول فنجان قهوتي من يد النادلة. جارةٌ لأهلي تسكنُ بالقرب من بيتنا في قريتي في صنوبر جبلة كانت قد كتبت تلك الجملة. غارَ قلبي وشعرتُ بجسدي ينهار. لم أرغب أن أصدق، مستحيلٌ أن يكون ما تقوله صحيحاً. كنتُ منذ بضع ساعات قد هاتفتُ أمي في القرية، ككل يوم. كل صباح أستيقظُ في منفاي الفرنسي، أُعِدُّ طفلتي وآخذها إلى المدرسة، وبعدها، قرابة الساعة الثامنة والنصف صباحاً بتوقيتي أُخابر والدتي على واتس آب فيديو، أغرفُ من حنانها وأُكلّمها قليلاً قبل أن أتوجه إلى عملي.
اسمي هنادي زحلوط، أنا ناشطة سورية، صحفية ومُدافعة عن حقوق الإنسان. كنتُ معارضة لنظام الأسد منذ يفاعتي الأولى، ساهمتُ بالعمل المدني والسياسي في دمشق قبل اندلاع الثورة السورية، وعند بدء الاحتجاجات انضممتُ إلى صفوفها، كتبتُ ووثّقتُ وشاركتُ في التظاهر، واعتقلتُ ثلاث مرات وعُذِّبت بناء على مواقفي. اعتقالي الأول جاء نتيجة التظاهر وقضيتُ فيه أربعة أشهر بين الفرع وسجن عدرا، والاعتقالان الثاني والثالث كانا نتيجة عملي مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير. اضطررتُ بعدها أخيراً لمغادرة دمشق وانتقلتُ إلى فرنسا حيث أسستُ وزوجي، صديقي ورفيقي في الكفاح والذي تعرّفتُ إليه في المعتقل في دمشق، أُسرَتنا الصغيرة. غادرتُ سوريا ولم تغادرني، وبقيت أنشطُ وأكتبُ وأتكلمُ بما يمليه علي ضميري كل سنوات الحرب. تركتني تجربة المعتقل والتعذيب بإصابة في العمود الفقري ما زال عليَّ أن أتعامل مع آلامها كل يوم، وبشريك حنون كانت ظروف اعتقالنا المتزامن سوية في الفرع الأمني نفسه سبباً في تعارُفنا، إذ شكّلت تلك الساعات بدايات الحب بيننا.
صباح يوم الجمعة السابع من آذار، اتصلت كما العادة بوالدتي، ردَّت ولكن على غير عادتها لم تكن جالسة تُنهي قهوتها الصباحية؛ كانت تذرعُ البيت جيئة وذهاباً، ينهبها القلق. أصوات الرصاص كانت واضحة ومسموعة على أطراف القرية، وأخبرتني أن فصائل وصلت إلى القرية وأن الجيران أخبروها أنهم على وشك البدء بحملة تفتيش واسعة لكل بيوت القرية. كانت أمي خائفة، حاولتُ أن أُطمئنها، أخبرتُها أن لا تقلق، أخبرتُها أن إخوتي مدنيون وأن لا سلاح في بيتنا وبالتأكيد لن يتعرض لهم أحد، أخبرتها أنه تفتيش روتيني، سينهونه ويرحلون.
كانت قد اندلعت اشتباكات في اليوم السابق على مقربة من القرية، عند جسر المزيرعة على طريق طرطوس اللاذقية الدولي، بين قوى الأمن العام وبعض المقاتلين السابقين في قوات نظام الأسد. منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، نفذت القوى الأمنية الجديدة العديد من حملات التفتيش والدهم والاعتقال بحق العديد من المقاتلين السابقين، اعتُقِلَ المئات في هذه الحملات، ولم تخلو الحملات من انتهاكات. ظهرت عدة فيديوهات يُضرَب فيها المُعتَقلون ويُطلَب منهم العواء. «عوي يا علوي يا كلب، عوي ولاك»؛ ترددت هذه العبارة في العديد من هذه الفيديوهات المُسرَّبة. في يوم الخميس السادس من آذار، دخلت بعض القوى الأمنية إلى قرية بيت عانا لتنفيذ اعتقالات، قوبلت بمقاومة مسلحة من بعض الجنود السابقين، وسرعان ما تطور الأمر إلى اشتباكات في عدة قرى ومناطق من الساحل السوري بين عدد من المقاتلين السابقين وقوى الأمن، قضى على إثرها عشرات من عناصر الأمن العام بحسب تصريحات وزارة الداخلية. بدا لساعات وكأن السلطة الجديدة فقدت السيطرة على مناطق من الساحل. أُعلن النفير العام بعدها، ونادت الجوامع في العديد من المدن السورية على الجهاد ضد «النصيرية»، وانطلقت أرتال من الفصائل العسكرية المختلفة، وانضم إليها مئات المدنيين، باتجاه القرى والبلدات التي شهدت المواجهات، وهي بأغلبها قرى وبلدات علوية.
في السابع من آذار، سيطرت الأرتال خلال ساعات على كل هذه المناطق بشكل تام، وحينها بدأت عمليات تفتيش وتمشيط في العديد من القرى والمناطق، ومن ضمنها قريتي صنوبر جبلة.
تعيشُ والدتي في الطابق الأرضي من بناية تتألف من ثلاث طوابق، في الشقة المجاورة لها في الطابق نفسه يعيش أحد إخوتي مع عائلته، ويعيش أخوان آخران مع عائلتيهما في الطوابق الأخرى في البناية. بيت أمي هو مَحجُّنا جميعاً، أنا عبر الهاتف أُشاركها قهوة الصباح، وإخوتي يمرون في طريقهم للعمل ليقولوا صباح الخير ويشاركوها القهوة إن سمح وقتهم. عادة ما تحاول والدتي أن تتمشى في القرية قليلاً إن كان الطقس مناسباً، ولكن في صباح السابع من آذار، منع القلق والوضع الأمني طقسها الصباحي، وبقيتُ أنا بعد مكالمتنا قلقة. ذهبتُ إلى العمل، ولكني لم أضع الهاتف من يدي للحظة وأنا أتابع الأخبار وأنتظر مكالمة منها لتُطمئنني كيف مرَّ التفتيش.
ثم جاء إشعار آخر على شاشة هاتفي؛ الدكتور مظهر خير بيك، صديق أسرتي، يُعلن على صفحته على فيسبوك أن المجموعات التي تنفذ عملية التفتيش في القرية قتلت عمه عنان خير بيك. صُدمت وارتبكت، داهمتني الأسئلة: كيف ولماذا؟ الأستاذ عنان يبلغ من العمر الآن 85 عاماً، عاد وجهه المبتسم إلى ذاكرتي، ولطف طباعه وأناقته الطاغية، وأسئلته الذكية والمُحفّزة في غرفة الصف. دَرَّسني اللغة العربية في البكالوريا، كان قارئاً واسعَ الاطلاع، شجاعاً في طرح ونقاش قضايا قد تُعَدُّ خلافية، طلبَ مني في إحدى المرات أن أقرأ موضوع التعبير الذي كتبته، بعدها صار يطلب مني أن أقرأ ما كتبت كل أسبوع، وفي نهاية العام الدراسي طلب مني الدفتر الذي كتبتُ عليه المواضيع، نَسخَهُ واحتفظ بنسخة. ساعدني الأستاذ عنان أن أجد صوتي الواضح والخاص، أن أتكلم بوضوح، وبقيتُ أعتمد على هذه المهارة في الكثير من المرات لاحقاً في حياتي وعملي المعارض ونشاطي. تركتني نعوته التي قرأتُ للتو خائرة القوى، وفي الوقت نفسه شعرتُ أن ثقلاً كبيراً وقعَ على كتفَيّ؛ ثقل لا طاقة لي بحمله.
اتصلتُ بعدها بأحد أبناء إخوتي، أجاب: «لا تخافي، فتّشوا البيت وراحو، كانوا مزعجين شوي لكن راحوا من شقتنا». «ماذا عن أعمامك الآخرين؟» سألته؛ «لا أعرف».
عدتُ إلى هاتفي، كانت جارتنا تكتب أن هناك اعتقالات لكثير من الرجال في القرية تحدث في هذه اللحظة، ومرة أخرى تناشد: الصنوبر، مجزرة، الآن !
بعد وقت لم أُدركه تماماً، اتصلت أختي التي تعيش في مدينة اللاذقية لتُخبرني ألّا أَتواصلَ مع أفراد عائلتنا في الصنوبر على الواتس آب بعد الآن، أخبرتني أن زوجة أخي اتصلت بها على الهاتف الأرضي لتقول إن تم اعتقال ثلاثة من إخوتي: أحمد وعلي وعبد المحسن. وإن أفراد الفصائل صادروا هواتف مَن في البيت عندما ساقوهم خارجاً.
قالت إنهم عندما دخلوا منزل أخي أحمد بعنف احتجّ، قال لهم إن للبيوت حرمات ولا يصح ما يفعلون. أحمد يعيش في الطابق الأول الفني، فوق شقة والدتي، عمره 58 عاماً ويعمل مدرساً ومديراً للمدرسة الثانوية في قريتنا، لديه خمسة أولاد. كان أحمد دائماً شخصاً مبدئياً، تمنيتُ في قلبي أنه لم يُجِبهم وخفتُ عليه كثيراً.
ثم قالت إنهم أخذوا علي أيضاً. يسكن علي في شقة مجاورة لشقة أحمد وفي الطابق نفسه، كان علي يجلس في شقته مع زوجته وابنتيه يحاول طمأنتهم عندما بدأ تفتيشُ القرية، اقترحَ أن يُعِدّوا المتة ليُضيفَ لمسة من العاديّة ليومهم الاستثنائي المرعب، أن يحاولوا أن يدّعوا أن الأشياء طبيعية، ولكن عندما قرع الباب، سارع علي لتخبئة بناته في الحمام وخبأ صينية المتة تحت الكنبة. يبلغ علي 52 عاماً من عمره، متقاعد منذ سنتين، ويعيش بكلية واحدة مع ضرورة المعالجة الدوائية المستمرة نتيجة وضعه الصحي القلق. تقول ابنته سارة إن أحد الرجال الذين اقتحموا المنزل سأله: «لماذا تكرهوننا؟»، نظر علي في وجه الشاب ملياً، حاول أن يلتقط نظرة عينه قبل أن يجيب بهدوء: «من نحن؟ أنا لا أكرهك ولا أكره أحداً، لم أحمل السلاح يوماً». صرخ الشاب في وجهه: «مو صحيح! أنتو علويين.. وأنتو بتكرهونا، أنتو قتلتوا أخوتي الاثنين، ماتوا بالقصف!». حاول علي أن يجيب أنه لم يكن مع القتل يوماً، حاول أن يقول أنه لم يرتكب ذنباً في أي يوم. وقعت كلماته على آذان صماء، صادر المسلحون هواتف بناته وهاتفه هو، واقتادوه خارجاً وأغلقوا الباب بعنف… بعد دقيقتين سمعت الأم وبناتها صوت إطلاق نار قريب!
عندما أخبرتني أختي هذا شعرتُ بألم جسدي لا يُطاق، شعرت بأن أصابعي تتقطّع.
ثم قالت إنهم بعدها توجّهوا إلى شقة عبد المحسن، أخي الذي يعمل مُدرِّساً للغة الفرنسية في مدرسة القرية. يعيش عبد المحسن في شقة في الطابق الأرضي في بناء ملاصق لشقة أمي، يبلغ 56 عاماً من العمر، ولديه ولدان ما زالا دون السن القانوني. أخذوه من بيته وأمام أولاده. قالت زوجته إنها رأت كل ما حدث من الشبّاك، رأت إخوتي الثلاثة يُقتلون بالرصاص قرب المنزل. قالت إنهم رفضوا الاستجابة للأوامر بالزحف أو العواء، ولذلك ماتوا ثلاثتهم بطلقات في الرأس والصدر، وقالت إن «علينا جميعاً أن نرفع رؤوسنا بأخوتي لأنهم ماتوا أبطالاً، ماتوا واقفين بعد أن رفضوا قبول إذلال كراماتهم».
انهارَ العالم من حولي بعد هذه الكلمات، كان علي يُخابرني يومياً، كان جزءاً من حياتي رغم البُعد، كان مُحِبّاً ويتابع أخبار ابنتي وحياتها اليومية، كنتُ ما زلتُ أحيا على أمل أن أزورهم وأتمكَّنَ من رؤيتهم وعائلاتهم قريباً حتى تلك اللحظة. لا شيء يمكن أن يُعزّيني بعد الآن، لا شيء قد يجعل هذا الفقد أقل وطأة، تمنيتُ لو تمكنتُ من مرافقتهم في لحظاتهم الأخيرة، أن أعرف ما هو الإحساس عندما تخترق طلقة الرأس أو الصدر؟ خدر أم ألم؟ هل اعتقدَ كل منهم أنه يموت وحيداً، أم عرف بموت أخويه؟ تبقى هذه الأسئلة تلحُّ علي وتُعذّب روحي، وأتمنى لو أنني هدهدت رؤوسهم المتعبة في لحظة الفراق، لو أنهم لم ينزفوا وحيدين، ويموتوا وحيدين، لو تمكنت من إسناد رؤوسهم في حضني وعناقهم وهم يرحلون فقط!
هذه التفاصيل مؤلمة ومُرهِقة.. مُرهِقة بشكل لا يتخيله عقل.
عادت أختي بعد ساعات لتتصل بي وتقول إن القرية بأسرها تعيش حالة حصار، الجثث مرمية في الشوارع ولا يُسمَح لأحد من الأهالي أن يتحرك أو يغادر المنزل. خلال تلك الساعات بدأ يتضّحُ حجم المجزرة، بدأتُ أرى على فيسبوك قوائم مبدئية بالشهداء، أسماء أناس أعرفهم، أساتذتي، رفاق أخوتي في الطفولة، جيراننا.. أدركتُ أيضاً أن بعض الناس هربوا والتجأوا إلى الأحراش القريبة.
حسمتُ قراري في تلك اللحظة بضرورة القيام بشيء، نعيتُ إخوتي وقررتُ أن أخرج في مقابلة على تلفزيون سوريا، عزيتُ بالضحايا من عناصر الأمن العام، ثم وصفتُ الأوضاع البائسة في القرية، وطالبتُ بسحب الفصيل الذي يقوم بعمليات التفتيش وبوقف القتل فوراً. تلقيتُ بعدها اتصالاً من رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، عزّاني بإخوتي وقال إنهم سيعملون على تأسيس لجنة تحقيق في الأحداث التي حصلت.
عرفتُ لاحقاً أن أولاد إخوتي تمكّنوا في اليوم التالي في ساعات الصباح الباكر من سحب جثامين إخوتي الثلاثة إلى داخل البناء، وضعوا الجثامين في شقة أخي أحمد في الطابق الأول الفني، لفّوها بحرامات، وجلست أمي إلى جوارهم تحرسهم.
كيف لأم أن تصبر على هذا المشهد؟ كيف استطاعت أن تتحدث معهم وتقول لهم: الله معكن يا ماما.. أنا مسامحتكن!
عندما كانوا صغاراً، مرض أحمد وعبد المحسن وعلي سوية بالجدري، وكانت أمي تتنَّقَلُ بينهم، كلٌّ في فراشه تطعمه وتسقيه!
والآن هي تحرس موتهم الجميل وتُغطّيهم!
بدأت أتصل بالعديد من رفاق الثورة، وأرسلتُ مناشدات عدة. يوم الأحد تكلمتُ مع السيد رائد الصالح، مدير فريق الخوذ البيضاء خلال سني الثورة، ووزير الطوارئ والكوارث في الحكومة الانتقالية، وطالبته أن يؤمَّنَ إخلاء العائلات العالقة في القرية. استجاب السيد صالح وأرسلَ من يعمل على الإخلاء، عندما وصلوا رفضت والدتي أن تستجيب، خافت ورفضت أن تفتح الباب، اتصلوا بي ليُعلموني بهذا، فطلبتُ من الشخص أن يضعني على شاشة الهاتف لتسمع والدتي صوتي وتراني فتطمئن. حوَّلَ المكالمة إلى فيديو، بالفعل فُتِحَ الباب، ولن أنسى المشهد الذي طالعني بعدها ما حييت.
فُتح الباب، أول ما ميزته كان وجه أمي جالسة على الأريكة، شعرها مغطى، وجثامين إخوتي الثلاثة كانت مُسجّاة على أرض الغرفة مغطاة بحرامات، وتَحلَّقَ آخرون حول أمي والجثامين، زوجة الشهيد أحمد وأولاده ووالديها العجوزين، زوجة أحد إخوتي الآخرين وابنه، لاحظتُ أن النساء كنَّ يغطينَ رؤوسهنّ، ويلبسن أرواباً طويلة. اقتربت ابنة أحمد من الهاتف، حدَّقت فيَّ غير مُصدِّقة لوهلة، كان الرعب يملأ عينيها. أدركتُ أنهم كانوا خائفين جداً، وأنه مع جو الشحن الطائفي واستمرار تواجد الفصائل في القرية وفرضها حالة حصار، فإنهم كانوا يخافون من احتمال وقوع مجزرة ثانية، فأقفلوا الباب على أنفسهم مع الجثامين التي خافوا أيضاً أن يحرقها المهاجمون. أدركتُ أنهم، حين فتحوا الباب بعد سماع صوتي، كانوا قد قضوا ما يزيد عن ستٍ وثلاثين ساعة مع الجثامين!
بحثت عن وجه أمي، أدركتُ أنها تحاول جهدها أن تبقى متماسكة وصابرة، وقالت لي بهدوء :«أي ماما، نحنا مناح». كانت أمي التي قد بقيت لأكثر من ثلاثين ساعة في فم الجحيم تحرسُ جثامين أبنائها تحاول أن تطمئنني أنا التي كنت في فرنسا. كان المشهد يفوق المستحيل.
بدأوا بالإخلاء، نقلوا جثمان أحمد إلى السيارة قبل أن يخبرهم المسؤولون عن الإخلاء أن لا مكان لبقية الجثامين، اضطروا لترك جثماني أخويّ علي وعبد المحسن. أقفلت الباب عليهم والدتي بعد أن وضعتهم في شقة عبد المحسن، وغادرت لتنقذ البقية وتحافظ على حياة أولاد علي وعبد المحسن وعائلاتهم. كان ذاك يوم الأحد. نُقلوا جميعاً إلى مدينة اللاذقية، وهناك بقي بعضهم في منزل أختي، وذهب البعض الآخر ليبقى عند أقارب لنا.
دُفنَ أخي أحمد في اليوم التالي، ذهبَ ابن أختي لاستخراج شهادة الوفاة، استلمَ الجثمان ونقله إلى جوار أولاد عمي في البصة، دفنه هناك بحضور أخٍ آخر لي واثنين من أولاد عمي، وسلّمهم شهادة وفاة أصدرتها المستشفى تقول إن سبب الوفاة أربع رصاصات في الصدر، بدون أية تفاصيل أخرى حول المُسبِّب أو السياق.
دخل الدفاع المدني بمرافقة عناصر من الأمن العام إلى القرية يوم الثلاثاء، أخلى الجثامين المُوزَّعة في البيوت والأحراش، ثم جاؤوا بتركسات وحفروا قبوراً جماعية وضعوا فيها كل الجثامين، هكذا بدون صلاة أو أحبة يودّعونهم، وضعوا فوقهم التراب ومضوا، ولم يُسمَح لأي من الأسر بحق الدفن الشخصي لشهدائهم، ولا بإقامة مراسم العزاء حداداً.
تم توثيق 236 اسماً لشهداءَ قُتلوا في المجزرة في قريتي الصغيرة صنوبر جبلة، بالإضافة إلى إحراق أربعين بيتاً في القرية. تمكَّنَ البعض من الهرب إلى الأحراش يوم بدأت المجزرة، وكانت بعض العائلات التي تملك بيوتاً في القرية قد غادرتها قبلاً أو أنها أصلآً تعيش خارج الصنوبر، ولكن، في أغلب المنازل التي دخلتها الفصائل قبل أن يهرب أهلها، تم قتل معظم الرجال، جارتنا أم عمّار خسرت ستة من أولادها. معاً. قُتلوا أمام عينيها.
بعد دفن إخوتي خابرتُ والدتي، لم تتوقف دموعي طوال المكالمة، وبقيت هي صابرة مُحتسبة.
على مجموعة الواتس آب لعائلتنا عزّينا بعضنا بعضاً، ولكني بقيتُ خائفة أن أُكلم والدتي لأيام، خشيتُ أني إن رأيتُ حزنها وسمعتُ صوتها مكسوراً أن أفقد الباقي من تماسكي وأنهار. عادت والدتي بعد فترة إلى القرية مع أخي لتفقُّد البيت، وجدت الباب مخلوعاً، الشقق بأغلبها تعرضت لتفتيش وتكسير ونهب، كل الأدراج والخزائن مبعثرة، وقد سرقوا الكهربائيات والمونة. سيارتنا التي كانت أمام الباب سُرقت، وعرفنا أن الأمر نفسه حدث في كل الضيعة، أغلب البيوت تعرضت للنهب والتخريب. صَوَّرتْ والدتي المنزل مُدمَّراً وشاركتْ معنا الفيديو.
بدأتْ بعدها تلملم الفوضى، وبعد أن انتهت قررت أن تطبخ أكلتي المفضلة البامية، ثم ذهبت إلى جيراننا تعزيهم. لطالما كانت والدتي شخصية صبورة وغيريّة، لطالما حاولتْ أن تهتم بالآخرين في أوقات الصعوبات أو الخسارة بدل أن تسمح للحزن أن يُقعدها ويشلّها. جاء بعض الجيران بعدها ليزوروها ويعزّوها، وبدأت أمي تحكي عن إخوتي، تحكي وتبكي وتتذكر، فلطالما كانت أمّاً ترعى أولادها حتى في غيابهم. يوم اعتُقلت، أبقت كل أشيائي الشخصية في غرفتي في بيتنا في الصنوبر، وما زالت كُتبي في البيت، تُرتّبها وتنفض الغبار عنها كل فترة، ما زالت ملابسي في الخزانة، والجوائز الأدبية التي ربحتُها أثناء دراستي ما زالت مُعلَّقة على الجدران، كأنّ أمي دائماً تُصرّ: «ستعودين يوماً، وحتى ذلك اليوم سأحرس ذاكرتك». هذا ما تقول والدتي إنها تريده اليوم، تريد أن تعود لتقيم في منزلنا في القرية بشكل دائم لا أن تزوره بين حين وآخر، تريد أن تعيش مع ذاكرة إخوتي، وهي تقبل أن ما جرى لهم هو إرادة رب العالمين، لكنها اليوم تريد أن تعود لتعيش حيث عاش أبناؤها، لكني أخشى عليها من العودة النهائية. ربما تكون المجزرة قد باتت من الماضي، ولكن الاستباحة مستمرة، ولا أريد أن نخاطر بسلامتها لأجل أن تبقى في البيت، بالنسبة لي. الذاكرة ليست الحجر وإنما الحكايات، وإن ضحايانا سيعيشون في قلوبنا أبداً وفي حكايات المكان بأسره وفي ذاكرته.
ما زال الرعب يعيش بيننا اليوم، الفصائل تمرّكزت في معسكرات قريبة كانت تابعة للجيش السوري السابق، مئات من أفراد الفصائل يتمركزون في معسكر الصاعقة، ويوجد حاجزان في القرية، وقد حدثت بعض التعديات، سرقوا سيارة أحد سكان القرية وموبايله مرة، وبقي مناخ الرعب مسيطراً على الأهالي لزمن طويل. كانت القرية لما يُقارب الشهر بعد المجزرة كقرية أشباح بالكاد يتحرك فيها أحدٌ سوى منتسبي الفصائل. جاء بعض هؤلاء بعد أحداث المجزرة، تكلموا مع النساء والأهالي، أعطوهم أرقام هواتفهم وقالوا في حال احتجتم شيئاً اتصلوا بنا، وضعوا اللوم في ما حدث على المواجهات مع «الفلول» وهجومهم على قوات الأمن العام، وقالوا إنهم الآن سيحمونَ الجميع. عندما حفظت النسوة الأرقام وحاولنَ الاطّلاع على أرقامهم على الواتس آب، وجدنَ أن بعضهم قد ثبتوا كحالة على التطبيق فيديوهات لهم وهم يقتلون رجالاً في الصنوبر. في أحد هذه الفيديوهات يظهر مقاتل، وجهه مغطى بلثام، يغني ضاحكاً، ثم يصرخ في أحد المقاتلين: «لا تطالع أي أسرى!»، ثم يقول ضاحكاً ومتشفّياً: «تطهير عرقي! تطهير عرقي!»، ثم يتحمّد الله وهو يدير الكاميرا حول المكان ونرى جثة لرجل مُكوَّم على باب المنزل خلفه. في فيديو آخر، انتشرَ على مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، يغني المقاتل نفسه ومن البيت نفسه أغنية جهادية بعد أن يحورها لتصف سياق ما يجي في الصنوبر: «جيناكم جيناكم، طعم الموت يهناكم، والسيف الإدلباوي، ما يبغى سواكم»؛ يكمل الغناءَ بصوته الشجي وكأن ما حوله ليس جثثاً، ويكمل مازحاً أنه سيُلبس مقداد فتيحة حفّاضاً. فتيحة هو أحد عناصر النظام السابق، مُتّهمٌ بارتكاب انتهاكات واسعة خلال سنوات الثورة والحرب السابقة، وخرج بفيديوهات عدة منذ سقوط النظام يتبنى فيها عمليات ويحرض على الهجوم واستهداف قوى الأمن والفصائل. ولكن المقاتل الإدلبي يتجاهل أن الذين حوله على الأرض رجال مدنيون لا علاقة لهم بفتيحة. في الحقيقة، كان ذاك بيت جيراننا، ولا يبعد أكثر من خمسمئة متر عن بيتنا، وكما إخوتي، سيقَ الرجال منه عُزَّلاً وقتلوا في إعدامات ميدانية.
أُسِّسَت لجنة للتحقيق في «أحداث الساحل»، وما زلنا بانتظار نتائج عملها. أعتقد أن مسؤولية قادة السلطة الحالية كانت أن يوقفوا القتل، واليوم أطلبُ محاسبة المسؤولين عن المجازر أياً كانوا. من يتابع عملي يعرف أني تحدثت في محافل دولية عدة باسم الثورة السورية، تحدثتُ في مؤتمر أصدقاء سوريا في العام 2012 أمام هيلاري كلينتون، وطالبتُ حينها بالإفراج عن المعتقلين ومحاسبة المسؤولين عن كافة الانتهاكات ضد أبناء الشعب السوري، واليوم ما زلتُ أطالب بالعدالة والمحاسبة عن كل انتهاكات الماضي، وأيضاً عن المجازر التي قُتل فيها إخوتي، برغم أني في الحقيقة أعتقد أن الشاب الذي ساق أخي خارجاً وقال له إن أخويه ماتا في القصف هو ضحية أيضاً بمعنىً من المعاني. أعتقدُ أن المُنتهِك والمجرم الحقيقي هو القائد العسكري الذي قال لهذا الشاب، ولغيره من مقاتلي الفصائل، أنه يمكن لهم القيام بما يريدون بشرط ألا يُصوِّروا. كانت قد تسربت فيديوهات عدة لقادة في الفصائل يخاطبون جموعاً، إما بشكل مباشر وهم يقفون أمام الحشد أو عبر الوكي توكي، ويعطونهم تعليمات أن لهم حرية التصرف بما يريدون؛ أحدهم يذهب إلى حدّ «ألّا يبقوا منهم أحداً» ولكن بشرط ألا يُصوِّروا.
استمرَّت عمليات نهب واسعة للبيوت والمحالّ قرابة أسبوع بعد المجزرة، واضطررنا في الأيام الأولى لإرسال خبز ومياه وحليب أطفال كإغاثة بعد الحصول على موافقة جهاز الأمن العام. تحسَّنَ الوضع قليلاً بعد ذلك، ولك الأهالي ما زالوا قلقين.
في تقاطع النيران!
اتصل بي أحد الأصدقاء القدامى بعد المجزرة، قال إن عليَّ أن أنضمَّ للحراك المطالب بالحماية الدولية، وقال إن احترامي لدم إخوتي يقتضي أن أفترش الطرقات أمام مقرات المؤسسات الدولية احتجاجاً، وأني بموقفي الداعي للتسامح أُبرِّر للمجرمين جرائمهم. أجبته أنني ما زلت أعتقد بضرورة بناء خطاب وموقف جامع يقرّب السوريين من بعضهم، وأن قضيتي اليوم هي أن أبني رأياً وإجماعاً بين السوريين يرفض القتل، وأن يروا جميعاً مدى القبح في كل هذا الدم المُراق، وأن تتوقف دورة العنف. لا شيء يُعزّيني بفقد إخوتي، ولكني بالتأكيد لا أريد أن يموت آخرون انتقاماً، ولا أريد معارك جديدة. أريد المحاسبة عن كل الجرائم وضد كل المُنتهِكين.
جاءتني بعدها رسالة أخرى من شخص هاجمني من موقع مُعاكس، قال إنه لم تحدث مجازر وإن السبب في كل ما حصل هو «الفلول» الذين هاجموا الأمن العام. قال أيضاً إنني أرى الأمور بعين واحدة. أجبته أنني وفي لقائي على التلفزيون، وبينما لم يكن إخوتي قد دُفنوا بعد، عزّيت بعناصر الأمن العام الذين فقدوا حياتهم قبل أن أتكلم عن المجازر التي كانت تحصل، وحتى قبل أن أطالب بسحب الفصيل الإجرامي من القرية.
في نقاش مع بعض الرفاق، جادل أحدهم أن الحكومة اليوم هي «أم الولد في سوريا، ولا ينبغي لأحدنا انتقاد الدولة». أجبتُ أنني أرى انتهاكات واسعة قد حدثت، وأنني لن أسكت كما لم أسكت يوماً من قبل. لم أكن أعرف ضحايا جسر الشغور ودرعا بشكل شخصي، ولكني كنتُ على أتم الاستعداد أن أدفع أثماناً شخصية واعتُقَلَ للدفاع عن حقهم.
ثم قالت لي إحدى المحاميات، التي جمعني معها تعاون وعمل أثناء سنوات الثورة، إنها لا تستطيع أبداً التعاطف مع إخوتي ولا مع أي من ضحايا الساحل. ثم لاحقاً عندما كتبتُ شهادة على صفحتي عن تعديات أحد الحواجز في المنطقة، الذي كان يُجبر المسافرين من العلويين على العواء، استجابت بإيموجي «أضحكني»، ولكنني حقيقة أختارُ اليوم أن أتناسى قسوتها التي تحزُّ في القلب كسكين مثلوم، وأختارُ أن أحتفي بالرسائل المُعزّية التي جاءتني من كل أنحاء سوريا. أكثر رسالة مؤثرة جاءتني من أحد سكان المخيمات في الشمال السوري، قال لي إن قلبه معي ومع أمي في خسارتها. شعرتُ بقلبي يكبر قليلاً حين قرأتها، وتنفّستُ بعضاً من أمل لمستقبل هذه البلاد من خلالها.
تعليقاتٌ كثيرة تصلني وتطلب مني أن أشتم «الجولاني» صراحة، وأشتم «الأمن العام». تأتي بعض هذه التعليقات من أشخاص مكلومين نتيجة المجازر ويرفضون كل أنواع القتل والإجرام، ولكنها تأتي أحياناً أخرى من أشخاص لم يعترفوا يوماً بالانتهاكات والمجازر التي وقعت على عموم السوريين على يد النظام السابق. وعلى أي حال، أنا أعيش في فرنسا بأمان ولا يضرني بشيء شتمُ أيٍّ كان، لكن ماذا يغير ذلك؟ هل يقيمُ العدالة بعد مقتلهم؟ هل تأتي العدالة فقط بالصراخ واتخاذ المواقف القاطعة والصدامية؟
عندما أُطالب بالعدالة اليوم، يَعتقدُ بعض السوريين أنني أطالب بها فقط ممّن أجرم بهم قبل الثامن من كانون الأول الماضي، ويعتقد آخرون أنني أطالب بذلك ممن أجرم في الساحل فقط بعد الثامن من كانون الأول! وبناء على ذلك، تصلني الشتائم، وأحياناً تهديدات بالقتل، من هنا ومن هناك بشكل متقاطع ومتزامن!
أعتقد أن أنصار النظام السابق من علويين وغيرهم، وحتى إن صار كثيرون منهم في موقع الضحية اليوم، يحتاجون للوقوف وقراءة الحقبة الأسدية بقلب وعقل مفتوحَين، وأن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة الصعبة حول ماذا قدمت تلك الحقبة لهم ولغيرهم؟ وكيف يستطيعون العيش في سوريا مع السوريين الآخرين؟
وبالمقابل فإن على جميع السوريين الاعتراف بأن ما جرى في الساحل مجازر صريحة، يجب أن تدخل ضمن مسار عدالة ينطلق بأسرع وقت ممكن ويشمل الجميع. لا شيء يمكن أن يُعزّيني بعد اليوم، وربما يكون هذا شعور كثيرين من عائلات الضحايا وأحبابهم في كل سوريا، لكن العدالة وحدها قد تمنحني بعض العزاء والأمل، وإن أي تأخير في مسارها سيعني أن إخوة لي في سوريا، من كل الأطياف، إخوة أبرياء سيدفعون الثمن مجدداً بينما تبقى أيدي المجرمين طليقة، وأن أصابعي ستنزف مجدداً وتُقطَع أيضاً وأيضاً، وأنا، لم أعد أحتمل هذا الألم…
مقالات مشابهة