أعتقدُ أن جلَّ ما يكتبه محمد أبي سمرا نابعٌ من شعورٍ مضنٍ بالذنب، وربما على نحو مسيحي: الشعور الدائم بالخطيئة والرغبة المستمرة بالاعتراف.
لذا، وهو إذ يسجلُ السِيَرَ أو يؤرخُ الأحداث والوقائع لا تغيبُ سيرتُه وأناه، فيستدخلُ الآخرَ وكلَ ما هو خارجه فيه، في جوارحِه وعواطفِه وانفعالاتِه.
وإذ أراد أبي سمرا أن يكتبَ عن لبنان ولعنتِه، يبدأ هكذا: “في طفولتي القصية، الخرساء المنقطعة، هنالك في قرية جردية حدودية نائية في أقصى جنوب لبنان الشرقي، كنت ابناً للقسوةِ والنقمة والرعب، بعد ولادتي البيولوجية من عدمين في بدايات خمسينات القرن العشرين”.
النقمة المنفجرة في هذه الأسطر الثلاثة، هي روح الكتاب.
وهذا ما يمنح أبي سمرا الطاقة على التدوين المحموم وبلغة سكّينية (من سكين). ولذا، أحسب أن لا أحدَ قبله قارب التأريخ لما هو مكتوم وصفه، ومخبّأ، ويُظن أنه هامشي أو معيب أو خطير البوح به. فالطائفية مثلاً، لم تُكتب بهذه الصراحة والوضوح والكشف. إنها هنا كلية الحضور.. هي التاريخُ نفسُه ومحركُه، هي السياسة برمتها. هي اللعنة بلا شفاء منها.
فمن حرب السنتين (بل وما قبلها من صدامات) إلى حرب خريف 2024، تاريخ من دماء ودمار ومقاتل ومقابر وثارات ونقمة وغضب وأحقاد، زُرعت في شقوق التفاوتات والاختلافات بين جماعات لبنان وبعض البلاد المشرقية، فصارت أقرب إلى تراث أو إرث يتجاوز المنطق أو الوعي الاجتماعي والسياسي ليصير لاوعياً اجتماعياً وتاريخياً عميقاً. وهو إرث قد لا ينفع ولا يفيد فيه الكلام المجرد عن الدولة والمواطن والقانون والحق.
يذهب محمد أبي سمرا إلى هناك، إلى تلك الشقوق، وإلى البشر والأفراد الذين يمثّلون على نحو حميم وحيّ معاني الثارات والنقمة والحقد، الضحايا والمذنبون معاً، وأحياناً ضحايا مذنبون في آن معاً.
شخصياً، يخطر ببالي أن أجلب سينمائيي لبنان لأؤنبهم على بلادتهم، وغفلتهم عما استطاع أبي سمرا تصويره من مشاهد، تليق بأفلام سرجيو ليوني مثلاً. مشهد نهب المريجة وحرقها تحت أعين أهلها الواقفين على مرتفع بلدة الحدث بعد هروبهم. مشهد الشابة وصديقها على الرملة البيضاء مع الجندي السوري الثمل ورفيقه من المخابرات. مشهد المعتقلين في الباص الغارقين ببولهم وقيئهم، مشاهد فتيان الشوارع أمام المدرسة، وذاك الفتى جنزارة جالساً على الحافة تحت لهيب الشمس يمضغ وحشته، أو وصفه لما أسماه على نحو بديع: العمران البرّي، أو الجمع بين نشوة البنزكسول وسحر الرايات والشعارات وصور الشهداء والمهرجانات والحشود الهاتفة والهاذية بأسماء ملوكها السحرة الكبار، أو ذاك المشهد المثير للقشعريرة في صالون أبي الشهيدين، فيما حكاية الملازم في منظمة “الصاعقة” يرويها أبي سمرا تصويراً جنونياً وعنيفاً يقطع الأنفاس بأسلوب كوانتن ترانتينو، كخلاصة مجتمع الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية في حرب 1975-1976.
إنه التاريخ “من تحت”، مستلّ من داخل بيوت، من مرويات أفراد، من زواريب لا يدخلها إلا أهلها، من نثر مهمل على الأرصفة وعلى الجدران.
سنلحظ هذه اللغة الجنائزية، حين يروي حكايات المسيحيين اللبنانيين، لغة حسرة عميقة، كمن يشعر بخسارات لا تعويض لها.
كذلك، ينشغل أبي سمرا، بالعنف المجاني المبتدئ في حرب السنتين والمستمر حتى يومنا هذا. فما نسميه “الميليشياوية” كسلوك وأخلاق بات مستحكماً بالحياة العامة، ونادراً ما يُلحظ في البحث والتفكير كعامل حاسم في تسميم الحياة السياسية وفي علاقات اللبنانيين، جماعات وأفراد. وكيف أن معظم الأحزاب “تستثمر” فيه وتلجأ إليه.
أيضاً، يمنح أبي سمرا، عبر مروياته واستقصاءاته الميدانية والسِيَر التي يجمعها، مساحة واسعة لإظهار “المجتمع النقيض” الذي يفارق ما يمكن تسميته “المجتمع اللبناني المدني”، حيث الأيديولوجيا والدين والطقوس والأساطير تسوّر الجماعة وتحصنها وتغلقها.
أحسب أن الكاتب قبض دون غيره على واحدة من اللعنات التي أصابت لبنان، هي عطب التواصل. يكتب: “عدم امتلاك لغة تواصل عادية، لا يقتصر على زمر فتيان الشوارع وحدهم. فهناك فئات كثيرة من الفتيان والفتيات ومن البالغين في بيئات لبنانية متنوعة، لا يمتلكون لغة وقيماً عامة مشتركة ولا فردية خاصة للتبادل والتواصل، إلا تلك اللصيقة بدوائر حياتهم في بيئاتهم العضوية. ففي مجتمعاتنا وثقافاتنا الأهلية امتنع نشوء مثالات وقيم مشتركة، متماسكة وجامعة، للتعارف والتبادل والتواصل الحر في دوائر فعلية للعلانية العامة المشتركة. ذلك أن الجماعات والثقافات الأهلية لا تسمح إلا عنوة، وضد الأهل غالباً، بتفتح النوازع الفردية والتعبير الشخصي”.
ومحمد أبي سمرا، روائي أولاً، لكنه يؤلف كتباً من نوع “وداع لبنان”، “موت الأبد السوري”، “أقنعة المخلّص” (بالاشتراك مع وضاح شرارة)، “بلاد المهانة والخوف”.. فيبدو أنه يجترح أسلوباً أو نوعاً كتابياً بلا ضفاف أو إطار.
وبهذا المعنى الكتاب ليس سيناريو سينمائي، وليس تأريخاً على المعنى السائد، وليس أدباً وخيالاً، وليس سيرة، ولا حتى عملاً صحافياً. إنه ذاك المزيج الذي أحسبه أجمل خيانة لفن الرواية.
(*) “لعنة لبنان”- دار رياض الريس (بيروت، 2025).