هذه اللوحات جزء من حملة إعلانية واسعة النطاق أطلقها “الائتلاف الإسرائيلي للأمن الإقليمي”، تحت شعار “تحالف أبراهام”، بهدف استثمار “النجاحات العسكرية” التي تقول إسرائيل إنّها حقّقتها في حربها الأخيرة ضدّ إيران ومحورها، لتحويل هذا الزخم إلى مسار دبلوماسي يُفضي إلى تشكيل “تحالف إقليمي جديد” لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق المقاس الإسرائيلي.
لا يخفي نتنياهو بهياجه الحربي وإطلاق آلة الدمار الإسرائيلية في كلّ صوب، سعيه إلى خريطة جديدة للشرق الأوسط تتجاوز ضمّ إسرائيل لكامل الأراضي الفلسطينية، وإلى إعادة تشكيل المنطقة برمّتها بما يتناسب مع المصالح الإسرائيلية واحتكار الدور القيادي فيها.
الشرق الأوسط الجديد عبارة ليست جديدة. تكرّرت مرّات عدّة في العقود الأخيرة. أرييل شارون توعّد بذلك عام 1982 بعد اجتياح لبنان، لكنّه حصد الخيبة. كذلك فعل شمعون بيريز عام 1993 في أعقاب اتّفاق أوسلو وكانت النتيجة نهراً من الدماء لا يزال يجري في غزّة والضفّة الغربية.
قرّر الرئيس جورج دبليو بوش بناء شرق أوسط ديمقراطي انطلاقاً من العراق بعد غزوه عام 2003، وكانت النتيجة الفوضى غير الخلّاقة في الإقليم برمّته، والانفلات المذهبي وتعزير النفوذ الإيراني وانهيار التوازن الإقليمي. وتكرّرت العبارة نفسها في الربيع العربي، وراح ضحيّتها الاستقرار في نصف دزينة من الدول العربية الأخرى. وتوعّدت الاتّفاقات الإبراهيميّة بولادة مختلفة للإقليم، لكنّ تهميشها المفضوح للقضيّة الفلسطينية فجّر “طوفان” غزّة وفتح “صندوق باندورا” والحروب الوجوديّة.
لا يخفي نتنياهو بهياجه الحربي وإطلاق آلة الدمار الإسرائيلية في كلّ صوب، سعيه إلى خريطة جديدة للشرق الأوسط تتجاوز ضمّ إسرائيل لكامل الأراضي الفلسطينية
خريطة نتنياهو
الخريطة التي عرضها نتنياهو قبل أشهر على منبر الأمم المتّحدة، وغابت عنها الضفّة الغربية وغزّة والحروب العدوانية التي شنّها على غزّة ولبنان وسوريا واليمن وأخيراً على إيران، تمثّل تصوّراً إسرائيليّاً لواقع إقليمي جديد لا تُحسم فيه القضايا العالقة بالسياسة إنّما بالقوّة، وتتقدّم فيه إسرائيل إلى صدارة المشهد كقوّة مهيمنة تفرض رؤيتها ومساراتها على جيرانها، ومنهم المطبّعون معها، وتُقصي من يعارضها وتضرب من يخالفها وترفض الجلوس مع الآخرين كشريك أو ندّ فاعل أو متساوٍ.
تتوقّع إسرائيل أنّ نجاحها في توجيه ضربة لإيران وحلفائها من شأنه أن يرغم كلّ القوى الإقليمية الأخرى على الانصياع لنظام إقليمي جديد تقوده بنفسها، وأن تندمج بـ”السيستم” الغربيّ الذي تقوده الولايات المتّحدة، وتحتكر إسرائيل حقّ النطق باسمه وتمثيل مصالحه العليا في المنطقة، واستغلال مقدّراته الأمنيّة والماليّة والعلميّة والعسكريّة.
يعتقد نتنياهو أنّ نجاحه في فرض إسرائيل كقوّة نووية وحيدة في المنطقة وقادرة على إملاء الشروط على مَن حولها مِن شأنه أن يرغم الدول العربية على شطب القضيّة الفلسطينية من التداول السياسي، وأن تكون مصر والأردن الوطن البديل والمأوى لملايين الفلسطينيين المشرّدين، توصّلاً إلى تهميش الأدوار القيادية العربية التقليدية من أجل تحالفات جديدة تركّز على إسرائيل، على أن تتبع ذلك “إعادة هندسة الوعي العربي” ليتقبّل إسرائيل، مثلما تقبّل اليابانيّون والألمان الغازي الأميركي في نهاية الحرب العالميّة الثانية.
تتوقّع إسرائيل أنّ نجاحها في توجيه ضربة لإيران وحلفائها من شأنه أن يرغم كلّ القوى الإقليمية الأخرى على الانصياع لنظام إقليمي جديد تقوده بنفسها
التّطبيع بالقوّة
هكذا ترتكز المقاربة الحالية التي يقودها نتنياهو على التفوّق العسكري وحده، ولا حاجة فيها إلى اتّفاقات أو مقترحات سلام، بل إلى قوّة ضاربة تُسكت الخصوم وتفرض إيقاعاً جديداً على الإقليم. وبناء عليه ترى إسرائيل أنّ إضعاف محور المقاومة وحسم الصراع الفلسطيني لمصلحتها يقودان حتماً إلى تطبيع واسع مع العرب، انطلاقاً من نظريّة جابوتنسكي: “العرب لا يقبلون بإسرائيل إلّا إذا كانت قوّة لا تُقهر”.
لكنّ الشرق الأوسط ليس أرضاً ورثها نتنياهو من أبيه. لا تسير المعطيات الواقعيّة في هذا الاتّجاه بالسهولة المتخيَّلة. صحيح أنّ إسرائيل تملك قدرة ناريّة جبّارة عمادها سلاح الجوّ، لكنّ هذه القوّة لم تُختبر أبداً في مواجهة قوّة مماثلة.
على الرغم من قوّتها لم تنجز مهمّة كاملة في الحرب، ولا سيما مع إيران، إلّا بمساعدة أميركية. كلّ إنجازاتها العسكرية لم تحقّق لها بعد أيّ نصر سياسي أو استراتيجي يُعتدّ به. إيران وإن تلقّت ضربة موجعة، كما تقول واشنطن وتل أبيب، فإنّ قدرتها على إعادة بناء برنامجها النووي لم تتلاشَ. وثمّة مؤشّرات إلى رغبة أميركية في احتواء إيران بدلاً من إسقاط نظامها.
الدول العربية الكبرى، لا سيما السعودية ومصر، لم تسلّم بعد بقيادة إسرائيلية للإقليم. تقاوم القاهرة الترانسفير وترفض رفضاً مطلقاً التهجير وتعيد بناء جيشها وتجهيزه وتعمل على ملء الفراغ العسكري والبشريّ في سيناء وتعيد النظر بسياساتها إزاء طهران لتصير أكثر قرباً. كذلك الرياض التي تتّخذ موقفاً حازماً برفض التطبيع قبل إقرار إنشاء دولة فلسطينية مستقلّة وفق قرارات الشرعيّة الدولية ووقف العدوان على غزّة، وتعمل على حشد دوليّ لإطلاق مؤتمر خاصّ بحلّ الدولتين، وكانت الأعلى صوتاً في رفض الحرب على إيران ووصفتها بالاعتداء والانتهاك لسيادة الدول.
الشرق الأوسط رجراج وتعقيداته متشابكة وتتعايش فيه وقائع لا تنكسر بسهولة. وإذا كانت الولايات المتّحدة في صدد هندسة نظام إقليمي جديد يجمع الحلفاء ويستبعد الخصوم، وهي الأقدر على فعل ذلك، فهذا لا يعني بالضرورة أنّ إسرائيل ستكون القاطرة الوحيدة للمشروع. ذلك أنّ السعودية وتركيا باتتا فاعلتين في المعادلة وتملكان من الأوراق ما يجعلهما شريكتين لا تابعتين.
لا تصنع القوّة العسكرية وحدها إنجازات سياسية. لا تزال إسرائيل تغرق في مستنقع غزّة وغير قادرة على حسم مسألة الضفّة
ردّ فعل داخل أميركا
من شأن انغماس الولايات المتّحدة في أيّ حرب شرق أوسطيّة كرمى لعيون إسرائيل أن يتسبّب بردّ فعل سياسي ضدّ إسرائيل في أميركا نفسها، وأن يؤثّر على الانتخابات الرئاسية والاشتراعية. فوز المرشّح المسلم المؤيّد لحقوق الفلسطينيّين زُهران مَمْداني في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب عمدة مدينة نيويورك مؤشّر إلى تحوّل في المزاج الأميركي.
قبل ذلك كانت التظاهرات الصاخبة في كبريات الجامعات الأميركية مؤشّراً آخر شديد الوضوح، وعمدت الدولة الأميركية إلى إخمادها بالقوّة نظراً إلى خطورتها إذا ما استفحلت. وعلى الرغم من التجييش الأميركي الإسرائيلي ضدّ القضيّة الفلسطينية ومحاولة طمسها تبقى عصيّة على التصفية، وتستعيد حضورها كلّما ظنّ البعض أنّها اندثرت. صارت راسخة في ذاكرة الأجيال الجديدة.
التّفاهم السّعوديّ – المصريّ – الأردنيّ
إذا ما تراجع الدور الإيراني فإنّ التفاهم السعودي – المصري – الأردني، والعلاقة المتنامية بين أنقرة وكلّ من الرياض والدوحة، وعودة سوريا إلى دائرة التواصل العربي، قد تمثّل محوراً موازياً للدور الإسرائيلي، ومن شأنه إذا ما تطوّر وتبلور أن يحول دون فرض الشرق الأوسط الذي تحلم به تل أبيب. وسيعيد تشكيل المشهد على نحو مختلف، لا سيما أنّه يتمتّع بطاقات اقتصاديّة وموارد بشرية وطبيعية وجغرافيّة هائلة. لا تحظى إسرائيل بالشرعيّة الشعبية، وصورتها كقوّة محتلّة لا تزال طاغية، وعدم إيجاد حلّ للقضيّة الفلسطينية سيظلّ عقبة أمام تنطّحها لأدوار أكبر منها.
إقرأ أيضاً: نتنياهو ينصّب نفسه شرطيّاً للنّوويّ؟
لا تصنع القوّة العسكرية وحدها إنجازات سياسية. لا تزال إسرائيل تغرق في مستنقع غزّة وغير قادرة على حسم مسألة الضفّة. لم يحمِ مفاعل ديمونا والقنابل النووية إسرائيل من طوفان غزّة ولا من الصواريخ الإيرانية التي انهالت على تل أبيب. لم توفّر منظومات “باتريوت” و”ثاد” و”حيتس” الحصانة لإسرائيل، ولم تبعث الطمأنينة في نفوس الإسرائيليّين الذين تتطلّع نخبتهم وشبابهم للعودة إلى أوطانهم الأولى.
بات الموت حاضراً في قلب البلاد. دولةٌ تعيش ثكنة على الحراب. الديمغرافيا عامل أساسي في التوسّع والطموح الإقليمي، وهو يصبّ في عكس المصلحة الإسرائيلية. الحياة عبر قتل الآخر من مآلاتها موتٌ مماثل. ليست إسرائيل مكاناً صالحاً للعيش. مجتمعها مريض وصراعاته عميقة ومدمّرة. ليس أعداؤها مَن يهدّدونها بل غطرستها. تدفعها انتصاراتها إلى المزيد من العزلة والحقد والكراهية. حرب الإبادة التي تمارسها تجعلها شيئاً فشيئاً منبوذةً عالميّاً، وبعد حين قد لا تنفع الرافعة الأميركية في نجدتها من كره العالم لها.