تتسارع وتيرة التحولات الاقليمية وتنعكس مباشرةً على الداخل اللبناني، حيث لم يعد ملف سلاح “حزب الله” مجرد عنوان في بيان وزاري أو بنداً مؤجلاً في طاولة حوار. للمرة الأولى، يدخل هذا الملف طور البحث الجدي، مدفوعاً بورقة أميركية تسلّمها لبنان عبر الموفد الأميركي توم باراك، وبدأت الرئاسات الثلاث مناقشتها عملياً عبر لجنة تقنية – سياسية خاصة اجتمعت في قصر بعبدا، وخرجت بمسودة أولية تقترح مقايضة الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي اللبنانية بسحب سلاح “الحزب”، ضمن ضمانات دولية.
اللجنة التي ضمّت ديبلوماسيين وخبراء أمنيين وممثلين للرؤساء الثلاثة، حظيت مسودتها بإجماع داخلي مبدئي، وبدأت مداولات هادئة بين الرؤساء من جهة، و”حزب الله” من جهة أخرى، تمهيداً لإقرار تصور لبناني مشترك يمكن التفاوض عليه دولياً، وهي خطوة غير مسبوقة تُنبئ بأن عهد المماطلة في هذا الملف شارف على نهايته، أو على الأقل دخل في مرحلة حسابات الجدوى.
بالتوازي، تحاول إسرائيل تلميع صورتها كـ”شريك سلام”، فوزير خارجيتها جدعون ساعر يعلن صراحةً رغبة إسرائيل في إقامة علاقات ديبلوماسية مع سوريا ولبنان، مع تأكيد أن الجولان “خارج التفاوض”. لكن خلف الابتسامات الديبلوماسية، تدور محادثات أكثر جدية، إذ كشفت تسريبات موقع “أكسيوس” الأميركي أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تُجري مباحثات تمهيدية مع النظام السوري الجديد برئاسة أحمد الشرع، لإعادة بناء تفاهمات أمنية على الحدود، تبدأ بتعديل اتفاق فكّ الاشتباك لعام 1974، وقد تصل إلى تطبيع كامل بشروط إسرائيلية.
في هذه المعمعة، يعود لبنان إلى واجهة التفاعلات الدولية، لكن بنزاع داخلي جديد، تفجّر هذه المرة تحت قبة البرلمان، على خلفية اقتراع المغتربين. الاشتباك بين رئيس مجلس النواب نبيه بري والكتل السيادية والمعارضة حول إدراج تعديل قانون الانتخاب، كشف عن خطوط الانقسام السياسية التي تتجاوز القانون إلى صراع على هوية المجلس النيابي المقبل، ومدى نفوذ الاغتراب اللبناني فيه.
المغتربون، الذين أظهروا في انتخابات 2022 تأثيراً نوعياً في كسر أكثرية “حزب الله” وحلفائه، يُراد حصرهم اليوم في ستة مقاعد رمزية موزعة على القارات والمذاهب، وهو ما ترفضه القوى السيادية التي تطالب بإعطائهم الحق الكامل بالاقتراع لـ128 نائباً، باعتبار أن المادة 122 من القانون غير دستورية، وتحدّ من المساواة بين المواطنين. وشهدت الجلسة التشريعية توتراً كبيراً، انسحب خلاله نواب “القوات” و”الكتائب” و”التغييريون”، بينما أبقى “اللقاء الديموقراطي” الجلسة قائمة فوق نصاب “النصف زائد واحد”، كاشفاً التوازنات الدقيقة وهشاشة التحالفات الحالية.
في الخارج، لا يهدأ الحراك. مجموعات من المغتربين اللبنانيين، خصوصاً في أوروبا، تنظّم مؤتمرات وتصدر بيانات تحت شعار: “حقنا بـ128 نائباً”. الضغط آخذ بالتصاعد، والمواجهة مرشّحة للاستمرار، خصوصاً أن تعديل القانون الانتخابي بات جزءاً من معركة أوسع: معركة على شكل الدولة واتجاهاتها السياسية.