ما تعيشه إيران اليوم يعيدنا إلى ظاهرة قديمة في المنطقة يمكن تسميتها ”متلازمة النصر المفقود”، وهي الحاجة المستمرة إلى صناعة “انتصارات رمزية” رغم واقع الهزائم المتكررة…
في مشهد لافت، خرج المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، إلى العلن بعد غياب دام أكثر من اثني عشر يوماً، وسط تكهنات حيال اختفائه تفادياً لاغتيال محتمل، كما حدث مع عدد من القادة والخبراء في البرنامج النووي الإيراني.
ورغم الخسائر الفادحة التي لحقت بإيران خلال الحرب الأخيرة، لم يتردد خامنئي في إعلان “الانتصار” على إسرائيل والولايات المتحدة، معتبراً أن استهداف قاعدة “العديد” الأميركية في قطر يمثل “صفعة كبيرة” لواشنطن.
لكن كثيرين رأوا في هذا التصريح محاولة تكتيكية لتغطية فشل أمني وعسكري تاريخي، بعدما كشفت العمليات الإسرائيلية عن اختراق عميق للمنظومة الأمنية الإيرانية. كما أن إطلاق صواريخ إيرانية في اتجاه تل أبيب وغيرها من المدن الإسرائيلية لا يمحو الخسائر الاستراتيجية الكبيرة التي مُنيت بها طهران حتى وإن فشلت “القبة الحديدية” في اعتراض بعضها. وكيفما كانت الحال فإن كلاً من إيران وإسرائيل احتفلا بطريقتهما الخاصة بالنصر.
ما تعيشه إيران اليوم يعيدنا إلى ظاهرة قديمة في المنطقة يمكن تسميتها “متلازمة النصر المفقود”، وهي الحاجة المستمرة إلى صناعة “انتصارات رمزية” رغم واقع الهزائم المتكررة. فمنذ عهد جمال عبد الناصر، ظل الخطاب القومي يغذّي الشعوب بأحلام التحرير والانتصار، رغم الهزيمة المدوية في 1967، التي تسببت بتراجع دور مصر الإقليمي. ورغم افتقار عبد الناصر إلى أي نصر عسكري حقيقي، لا يزال إلى يومنا هذا يمجد كرمز من رموز مواجهة الإمبريالية والاستعمار.
على النقيض من ذلك، قاد الرئيس الراحل محمد أنور السادات مصر إلى نصر حقيقي في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، تلاه مكسب استراتيجي تمثل في استعادة سيناء عبر اتفاقية سلام مع إسرائيل ومن دون إراقة دماء. ورغم هذه الإنجازات، اتُهم السادات بالخيانة واغتيل، مما يعكس خللاً عميقاً في نظرة الشارع العربي إلى النصر، إذ يُعلي من شأن الخطابة على حساب النتائج الواقعية. لذا يصعب إيجاد تفسير لهذه “الكيمياء العربية” التي تحن إلى المنهزم وتنفر من المنتصر.
في عراق صدام حسين تكرر المشهد ذاته. صحيح أن بغداد صمدت أمام نظام الملالي الذي حكم إيران بعد سقوط الشاه عام 1979، وحدّت من طموحاته التوسعية عبر حرب ضروس دامت ثماني سنوات، بيد أن هذا النصر الجزئي تلته لعنة “غزو الكويت”، التي أدت إلى انقلاب موازين القوى، وجرّت على العراق دماراً واسعاً، توّج بسقوط نظام صدام تحت ضربات تحالف دولي قادته الولايات المتحدة.
اليوم، تُكرّر إيران النهج نفسه، عبر خطاب يتبنى “تصدير الثورة”، لكن التمدد الذي حققته في لبنان وسوريا والعراق واليمن يبدو أنه بلغ ذروته. إيران الآن مطالبة بمراجعة أولوياتها، والعودة إلى الداخل الذي يئن تحت وطأة أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، بدل مواصلة المغامرات الخارجية التي تستنزف قدراتها وتزيد من عزلتها.
للأسف، لم تستخلص المنطقة الشرق أوسطية العبرة من مآل عبد الناصر وصدام، وباتت تخضع لعاطفة دينية وقومية تغذي سرديات “الانتصار” الزائف، في حين تتوالى الهزائم الحقيقية.
على الجانب الآخر، تبقى الولايات المتحدة القوة المهيمنة في المنطقة، فيما تُعد إسرائيل امتداداً وظيفياً لها، خصوصاً بعدما أثبتت الحرب الأخيرة أن التنسيق بين الطرفين لا يزال قوياً وفعّالاً.
لقد أدرك الراحل السادات هذه الحقيقة مبكراً، وقال إن 99% من مفاتيح حل أزمة الشرق الأوسط بيد أميركا، فاختار التفاوض بعد النصر، لا الاستمرار في حرب استنزاف خاسرة.
جدير بالذكر أن عبد الناصر نفسه قبِل قبل وفاته مشروع “روجرز” الأميركي، بعدما خذلته موسكو في محطات عدة، ما يؤكد أن الواقعية السياسية كانت حاضرة حتى لدى أكثر الزعماء شعاراتية.
أما إيران، التي ترفض الاعتراف بهزيمتها وتعلن “نصراً مبيناً”، فيكشف واقع الحال عكس ذلك. فإعادة بناء المنشآت النووية المتضررة، وتعويض القيادات التي اغتيلت، سيستغرق سنوات طوالاً، وقد لا يكتمل إطلاقاً.
لقد تصرفت إيران بعد سقوط صدام كسيّد في الخليج والشرق الأوسط، لكنها اليوم أمام استحقاق تاريخي؛ إما الانكفاء للداخل، وإما مواجهة مزيد من العزلة والانهيار. مرحلة “تصدير الثورة” انتهت، وكذلك مرحلة الهيمنة الإقليمية، وما تبقى هو محاولة إنقاذ الدولة، حتى لا أقول النظام برمّته.