يشبه “السلام” الذي تقدّمه إسرائيل لسورية حالة محاربٍ أسقط خصمه أرضاً، ووضع قدمه على صدره، والسيف في نحره، ويطلب منه الإقرار بالهزيمة والتنازل عن مطالبه. رغم أن إسرائيل تحاول تقديم “السلام” في قالبٍ دبلوماسي، وضمن إطار تفاوضي، لكنّ مضمونه لا يخرج من إطار الصورة الموصوفة، فالأمر في نظر حكّام إسرائيل (وهو كذلك بالفعل)، ليس صفقة سلام، بل استسلام بعد حرب خاضتها إسرائيل، دمّرت خلالها أصول القوات السورية، واحتلّت أجزاءً من الأراضي السورية، وتهدّد قواتها العاصمة دمشق، وضربت طائراتها القصر الرئاسي، واخترقت مكوّنات سورية، فبات بعضهم ينظر لإسرائيل طرفاً مخلّصاً، أو ورقة قوة يمكن وضعها على طاولة التفاوض لموازنة قوّة حكّام سورية الجدد، وتحصيل ما أمكن من امتيازات داخلية.
ثمّ إن إسرائيل تنظر لاستسلام سورية تفصيلاً صغيراً في سياق أكبر، إذ تعتقد نخبتها الحاكمة أنها هي من هندست الشكل الجديد للشرق الأوسط، عبر تفكيك المعادلات التي أرستها إيران في المنطقة، وإزاحة أذرعها التي نكّلت بالمنطقة واستنزفت طاقات شعوبها، وفرضت عليها خيارات قسرية. وعلى ذلك، لم تكن الديناميكيات الجديدة التي بدأت تشهدها سورية، والمنطقة من خلفها، ولا سيّما إخراج سورية من العزلة، والمشاريع الهائلة الموعودة، لتحصل لولا الجهد الإسرائيلي. ومن ثمّ فإن من حقّ إسرائيل الحصول على مكاسب موازية، أقلّها أن يكون لها مجال حيوي، ومساحات أمان، في سورية ولبنان.
تنطلق إسرائيل (ومن خلفها إدارة ترامب) من معطيات واقعية، في مقدمها أولويات الحكم الجديد في سورية، يأتي في صدارتها الاعتراف الدولي، وتحديداً الأميركي والإسرائيلي بشرعية النظام القائم، وفي درجة ثانية الإنعاش الاقتصادي لسورية، وهو ما تحاول إدارة ترامب تسهيله عبر رفع العقوبات المتراكمة على سورية في مدار أربعة عقود، لكي يسمح للاستثمارات بالتدفّق، والانتقال بسورية إلى وضع اقتصادي أفضل، يمنح النظام الحاكم ورقةَ قوّة تدعّم شرعيته محلّياً وإقليمياً.
وعلى عكس ما يجري تصويره (ووضعه في إطار عاطفي) من أن ترامب يفعل ذلك بسبب إعجابه بشخصية الشرع، أو حتى تنفيذاً لرغبات حلفائه في المنطقة، الذين تمنّوا عليه إزالة العقوبات عن سورية، الواضح أن ترامب يقارب هذا الأمر بطريقة منهجية، يسعى عبرها إلى جذب النظام الحاكم في سورية إلى ملعبه الأثير، الصفقات والحسابات المالية، وفي هذا الحقل سيكون سهلاً ملاعبته والحصول على تنازلاتٍ عميقة ومؤثّرة، ولعلّ ما يؤكّد ذلك أن ترامب لم يرمِ كلّ أوراقه دفعة واحدة، إذ إن قرارات رفع العقوبات غالباً ما يجري تذييلها بعبارة “مع حقّ الاحتفاظ بإعادة فرض العقوبات إذا…”.
ولكن، وبرغم الحديث عن دورَين لواشنطن ولتل أبيب في دفع نظام دمشق صوب عقد اتفاقية سلام، أو تطبيع واستسلام، إلا أن ذلك يبدو مبنياً على جهل بالتعقيدات الإقليمية، التي لعبت الدور الأبرز في التغيّرات التي حصلت في المشهد السوري، وهنا يمكن الحديث عن أدوار تركيا والسعودية وقطر، وهذه الفواعل الثلاثة تعتبر مرجعيات صريحة لنظام الحكم في دمشق، ولا بدّ أنه مع خطوة بحجم السلام (أو التطبيع) مع إسرائيل سيجد نظام الحكم في دمشق نفسه ملزماً بالتنسيق مع هذه الأطراف إلى حدّ بعيد. وهنا سندخل في طور حسابات وموازنات معقّدة، من نوع المكاسب التي ستحصل عليها تلك الأطراف أو بعضها، ولا سيّما على مستوى التأثير المستقبلي والنفوذ، ومساحات الربح والخسارة التي ستتحقّق، وما تأثيرها في حسابات الفاعلين وفي مشاريعهم الوطنية، التي لا تتّفق بالضرورة مع رؤية ترامب، فما بالك بمشروع نتنياهو لتغيير الشرق الأوسط، ثمّ إن الأطراف المذكورة تقع تحت ضغط إدارة ترامب للانخراط في عملية تطبيع مع إسرائيل، ورغم موافقتها المبدئية، إلا أنها تصرّ على إيجاد غطاء لموافقتها يتمثّل بإنهاء الحرب على غزّة واعتراف إسرائيلي نهائي بقيام دولة فلسطينية، ومن دون هذا الغطاء لن تستطيع هذه الأطراف الخوض في مشروع السلام أو التطبيع مع إسرائيل، ومن دون غطاء هذه الأطراف لن يستطيع الحكم في سورية الموافقة على تطبيع علاقاته مع إسرائيل.
أمّا أن الداخل السوري يمثّل محدّداً قوياً يمنع الشرع من السير في مسار التطبيع، فيبدو أن هناك لبساً في هذا الأمر، إذ يتداخل لدى أصحاب هذا اللبس الفاعل بالمتغيّر، فإذا كان الفاعل هو من يملك القدرة على القرار، فلا يمكن تسمية الشعب السوري بالفاعل، بل هو متغيّر من ضمن قائمة طويلة من المتغيّرات، فأين قدرته على اتخاذ القرار؟ ثمّ أين هي أدواته التقريرية؟… لا مجلس شعب يمثّله، ولا مجتمع مدني موحّد، ولا أحزاب معارضة فاعلة، ولا يوجد أيُّ مَعلَمٍ للشعب خارج ما تشكّله السلطة وتقدّمه على أنه شعبي. بل ما يؤكّد حقيقة أن الشعب متغيّر أكثر منه فاعلا، أنه لو اعتُمِد على رأي الشعب السوري، لكان ذلك محفّزاً قوياً لإدارة الشرع كي تبدأ بالمفاوضات منذ الأمس وليس غداً، إذ، ومن منطلق حالة الانقسام الحاصلة في سورية التي لا يمكن إنكارها، سيعتبر من يؤيّد نظام الشرع أن التطبيع مع إسرائيل بمثابة هزيمةٍ للطرف الآخر، الذي يستقوي بإسرائيل، ويضعها احتياطاً استراتيجياً لمعركته مع النظام، في حين سيرى من يعارض الشرع أن التطبيع مع إسرائيل يقوّي أوراقهم في مواجهة نظام الحكم، وسيمنحهم فرصةً لفرض توجّهات سياسية على الحكم لصالحهم.
السلام بين سورية وإسرائيل عملية أكبر من نظام الحكم والشعب في سورية، عملية مرتبطة بشكل كبير بشروط إقليمية ودولية ولعبة توازنات خارجية، وهي غير متوافرة حتى اللحظة على الأقل.