“على حبّ الحسين وآل بيته”، تُنصب المضايف في قرى الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبيّة، مع بداية كلّ محرّم، في مشهدٍ مألوف من طقوس عاشوراء. في الأزقة، على المفارق، وفي ظلّ بيوتٍ متشظية نتيجة الحرب، تُنصب خيمٌ سود تُوزّع الطعام والشراب مجاناً. لكنّ للمضايف هذا العام شكلاً آخر، لا يتمثّل في طقس ديني محضّ، إنّما يتخذ طابعاً اجتماعيّاً تعبيريّاً، يتجاوز بدوره حدود الطائفية والعقائدية المتوارثة، ليصير أكثر عضويةً وانسجاماً مع الواقع الذي عايشته الطائفة الشيعية على مدى العامين الفائتين.
وجه عاشوراء المتبدّل
من الفيديوهات المتداولة، برز وجه آخر لعاشوراء. شاب سوري، يُعرّف عن نفسه بأنّه “سنّي” من درعا والشام وحلب ودرعا وإدلب وحمص، يتجوّل في الضاحية الجنوبية لبيروت، ويُقابل بالترحيب والاحتضان، وبعبارات على غرار: “الحسين مش للشيعة.. الحسين للناس كلن”. يقول الشاب في الفيديو: “نزلت عالضاحية وسألت الناس إذا كانوا سيستقبلوني رغم أنّني سني.. قالولي عاشوراء إلنا كلنا”. وتُختتم اللقطات بالترحيب وتوزيع المأكولات، كتقليدٍ راسخٍ في الأيام العاشورائيّة.
في فيديو آخر، يظهر شاب مسيحي، يضع الصليب، وشارةً عاشورائية حمراء على يده، ويساهم في توزيع المأكولات في المضايف المنصوبة في الشارع. وليست هذه المشاهد عفوية بالكامل. إذ ثمّة توجّه واضح لدى من يصنع هذا المحتوى الإعلامي إلى تقديم عاشوراء كمساحةٍ عابرة للطوائف، وأنها النقيض للخلاف السياسي بين الشيعة والسوريين، وفوق الاصطفافات والخلافات بين السنة والشيعة، وكأنها تعيد تموضع نفسها في الزمن السياسي الحاضر. ولو بدت كأنّها من الكليشيهات اللّبنانية المكرّرة، وكأنّها تحمل رسائل جديدة مستوحاة من الواقعة الأخيرة.
إعلامٌ في مواجهة التحريض
وهذا التوجّه الإعلامي المحلي يأتي في سياقٍ معقّد. ففي مقابل ذلك، تبثّ حسابات لبعض المؤثرين السوريين، مقاطع تأخذ أحياناً طابعاً تحريضيّاً تصوّر مراسم عاشوراء كفعل مذهبي عدائي أو حتّى يتسم بطابع همجي. فيديوهات تتحدّث عن “طقوس شيعية تثير الفتن”. ليبدو محتوى ناشطين لبنانيين وسوريين مقيمين في لبنان رداً واعياً على بعض هذه الحملات الإعلامية والافتراضية.
عاشوراء تُعرض هذا العام كفعل اتصالي مفتوح، يواجه خطاب الانقسام بخطاب الوحدة، وينقل مشهداً حدادياً هادئاً وسط حرب تدميريّة وعشوائيّة، كادت تجعل ما أصاب الشيعة في الحرب متصلاً أكثر بواقعة عاشوراء. وللعِلم، فإنّها ليست السنة الأولى التي تصوّر قضية عاشوراء بهذا الشّكل، بل تصوّر دائماً على أنّها قضية “المظلوم على الظالم” وبأنّها تنطبق على “كل إنسان مظلوم في العالم”.
إذاً، الرسائل ليست جديدة بفحواها، لكنّها ذات سياق جديد. فالحرب، أو الحروب، التي أتعَبت حزب الله وبيئته احتاجت في المقابل لمناسبة، كعاشوراء، للتفريغ والتعبير عنها، أو حتّى لإعادة إثبات تموضع الشيعة كجزء من الوحدة الإسلامية والإنسانية. ليبرز شيعة لبنان رسالةً واضحة أنّهم جزءاً من هذا العالم الإسلامي، أو غير الإسلامي في بعض الأحيان.
عاشوراء في زمن النكبة
تُقام المضايف هذا العام في ظلّ حربٍ مفتوحة انهكت الجنوب. إسرائيل، منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تشنّ غارات شبه يومية وتقتل شباب الجنوب وأبنائه من دون أن يشغل خبرهم أي حيزٍ إعلاميّ ولو موقتاً.. حتّى بات الجنوب ومحنته المستمرّة بلا هوادة، خبراً عاديّاً، نمطيّاً. لكنّ رغم ذلك، ما زال إحياء عاشوراء قائماً. رجال فقدوا عيونهم وأطرافهم ينصبون مضيفاً، نساء يطبخن على الحطب ويوزعون الطعام، وأطفال ترعرعوا على أصوات القصف يحملون أواني الماء ويقولون: “هذا عن عطش الحسين”. هي مشاهد تعيد تأويل الذاكرة الجماعية للمناسبة، بوصفها فعل صمود، ووفاء، وحدادٍ عام. هي بيعة متجدّدة للإمام الحسين، كما يعتبرونها، هم الذين يعرفون تماماً معنى أن تُقاتل وتحاصَر وحيداً.
ربما هي طريقة البيئة للدفاع عن سرديتها أو إعادة صياغتها، بقالبٍ أكثر واقعية وعضوية. وربما أيضاً هي محاولة لقول ما لا يمكن قوله بالسلاح. هي حكاية الجنوب، والضاحية، وناسها. أولئك الذين وجدوا في عاشوراء هذا العام مساحةً للتعبير عن وجعهم. عاشوراء، بكل ما تختزله من معاني الفقد والعدالة، بدت كمرآة تعكس حال بيئة منكوبة، وجدت في مظلومية أهل البيت ما يشبهها.