ملخص
تدريس الموسيقى كان من أسوأ المهن التي يمكن للموسيقي الشاب أن يتصور أن عليه أن يمارسها يوماً. وهو كان كثيراً ما يعبر عن كراهيته بل احتقاره لها لا سيما في مراسلاته مع أبيه، إذ لم يكن ليخفي أبداً نفوره التام من ذلك العمل الروتيني الذي غالباً ما كان يقتضي منه أن يضيع وقته الثمين أمام تلامذة لا يتمتعون بأية موهبة على الإطلاق.
إذا كانت الرحلة الباريسية الأولى التي قام بها موزارت وهو بعد في سن الطفولة، وقد اصطحبه إليها والده ليوبولد برفقة أخته ليعمم مواهب الولدين من خلال عزفهما ومؤلفات الصبي المعجزة، قد حققت لتلك العائلة الصغيرة الطموح، مما تجاوز حتى كل ما كانت تتوقعه، فإن رحلته الثانية الكبرى إلى العاصمة الفرنسية والتي استبقتها توقعات أكثر طموحاً، لم تكن ناجحة كالأولى، بل يمكن القول إنها أسفرت عن فشل وخيبة كادا يكونان مطلقين لولا أن الفتى نفسه، وقد أضحى شاباً في الـ22 هذه المرة، تمكن من تدارك الأمر في النهاية منصباً بموهبته وجهوده وحتى بغضبه على الفرنسيين والباريسيين منهم بصورة خاصة على كتابة سيمفونيته الـ31 والمعنونة بالتحديد، “باريس” كنوع من التحية، أو بالأحرى كنوع من الترفع على تلك المدينة التي لم تحقق له هذه المرة ما كان يشعر أنها تعده به: أسمى آيات المجد، ومبالغ ضخمة من المال كان هو وأبوه يمنيان النفس بالحصول عليها.
صحيح أن المجد كان على الموعد المضروب حتى وإن لم يكن لباريس أي فضل في ذلك عدا عن كونها مركز الثقل الفني في أوروبا، ومن ثم يمكن لمن ينجح فيها أن ينجح في أوروبا كلها، لكن المال لم يصل إلى الأب والابن موزارت إلا بالقطارة. بل كان على الفتى المعجزة أن يمارس أعمال التدريس كي يتمكن ووالده من العيش في تلك المدينة.
مهنة كريهة
ولا بد لنا من أن نشير هنا إلى أن تدريس الموسيقى كان من أسوأ المهن التي يمكن للموسيقي الشاب أن يتصور أن عليه أن يمارسها يوماً. وهو كان كثيراً ما يعبر عن كراهيته بل احتقاره لها لا سيما في مراسلاته مع أبيه، إذ لم يكن ليخفي أبداً نفوره التام من ذلك العمل الروتيني الذي غالباً ما كان يقتضي منه أن يضيع وقته الثمين أمام تلامذة لا يتمتعون بأية موهبة على الإطلاق. بل إنه كان يضيف إلى ذلك أن المشكلة تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك هو الذي يرى أن إعطاء دروس في الموسيقى ينبغي أن يكون وقفاً على أشخاص لا يعرفون في حياتهم شيئاً سوى العزف على البيانو، وهو في الحقيقة كلام كان يعني به أنه واع تماماً لكون الموهبة لا تورث ولا تنقل من كائن إلى آخر.
بيتهوفن في سيمفونيته الأولى يغوص في روح موزارت
عن موزارت الطفل أيضا: هذا ما كان في باريس 2
كيف أثرت الموسيقى التركية على أوروبا وموزارت؟
بيتهوفن وموزارت في المدارس السعودية قريبا؟
ومع ذلك ها هو يجد نفسه في باريس مرغماً على ممارسة التدريس إذ تبين أنه الوسيلة التي تمكنه ووالده من العيش في تلك المدينة، على رغم ما كان يقوله لوالده يومياً من أن التدريس “نوع من العمل لم أخلق لأقوم به. كل ما في الأمر أنني مستعد لإعطاء الدروس على سبيل المسايرة لا سيما حين أميز لدى تلميذ من التلاميذ قدراً كبيراً من العبقرية ورغبة في الموسيقى وحبوراً في حضرتها يظهران لديه بكل وضوح. لكن، أن أكون مجبراً على الذهاب بانتظام إلى بيت آخر، أو انتظار التلميذ يأتيني إلى بيتي، فأمر لا قدرة لي عليه… ولو في سبيل المال. أنا الذي لا ينبغي علي ولا قدرة لي، أن أدفن الموهبة التي حباني الرب بها، موهبة التلحين”. لكنه في باريس وجد نفسه مكرهاً على ذلك، وبالتحديد من أجل المال عندما خلا وفاض الأسرة وراحت طلبات الأم والبنت تصل متتابعة وملحة من الوطن.
وسارت الأمور على ما يرام
وغرق أماديوس في المهنة الكريهة وبدت الأيام الأولى بالغة الصعوبة حيث اضطر الشاب الموهوب لأن يدرس في صومعة مغلقة لا يجد المرء فيها مكاناً ولو لآلة بيانو صغيرة. غير أن البارون غريم، صديق الأب وراعي الابن، كان هناك دائماً، وراح تدريجاً يحل كل الإشكالات وقدم صديقيه النمسويين إلى أكثر العائلات ثراء كما إلى أكثر الفتيان والفتيات، حباً للموسيقى ورغبة في تعلمها وبخاصة في أوساط أسر من أصول نمسوية كانت تقيم في باريس وتقوم بأعمال تجارية ناجحة.
Unknown_artist_-_Portrait_of_Wolfgang_Amadeus_Mozart_(1756-1791).jpg
أماديوس وولفغانغ موزارت (1756 – 1791) (غيتي)
وكذلك تمكن غريم من الحصول للموسيقيين على مكان فسيح ولائق يمارسان فيه التعليم، كما تمكن أماديوس من التعرف على جان ليغرو، مدير ما كان يسمى “الكونشرتات الروحية” كما استعاد علاقاته المقطوعة مع جان جورج نوفار مدير فرع الباليه في الأوبرا، وهذان جمعاه بالدوق دي غين الذي كانت ابنته موهوبة في العزف على الهارب والناي ومن أجلها سيلحن أماديوس بعدما يلتقط أنفاسه ويشعر بشيء من الود تجاهها، قطعته الشهيرة، لاحقاً، “كونشرتو للهارب والناي”.
غير أن ذلك كله لم يخفف عن فتانا الأذى الذي ظل يحسه تجاه تعامل “الفرنسيين” الأقحاح معه. وبصورة خاصة تعامل الدوقة دي شابو معه. سيدة الصالونات الفرنسية الثرية التي لن ينسى طوال ما تبقى له من أشهر يعيشها في باريس وسنوات يعيشها في هذه الحياة الدنيا كيف أنها وفي خلفية شيء من التهذيب كان يسم تعاملها معه، كانت تخفي احتقاراً وعجرفة لا مبرر لهما على الإطلاق، في رأيه في الأقل. وبخاصة حين دعي ذات مساء للعزف في دارتها وأمام ضيوفها، فطلب إليه أن ينتظر زمناً طويلاً في ردهة باردة، ثم حين دخل لتقديم معزوفاته في صالونها الباذخ وجد نفسه جالساً ليقوم بعرضه خلف آلة بيانو مهترئة بالكاد يمكن لمبتدئ أن يقبل بالعزف عليها.
الفنان رغم كل شيء
صحيح أن ذلك كله قد عزز نفور موزارت الشاب من التدريس، لكن أيضاً من الفرنسيين. غير أنه ذات يوم، وكما يفعل أي فنان كتب له أن يكون عبقرياً منذ الصغر، ومبدعاً في كل لحظة من لحظات حياته، حدث له ذات يوم أن أحس أن ميعاد مبارحته مدينة النور والعودة إلى الديار قد أزف وحدس ولو بصورة غامضة أن رحلته هذه قد تكون الأخيرة إلى مدينة فطر على حبها وكان منذ صغره يشعر بدين كبير لها عليه، حدث له أن جلس إلى معزفه وراح يغوص بين نوتاته وأصابع البيانو، ليكتب واحدة من أجمل السيمفونيات التي كتبها في سنواته الأخيرة، أي “باريس” التي حملت لديه الرقم 31 كسيمفونية، وبدا واضحاً فيها ليس فقط أنه يحيي المدينة رغم نفوره من بعض ممارسات أهلها تجاهه، بل كذلك يحاول من خلال تألقه فيها أن يعوض على ما كان قد حدث له قبلها بفترة حين كتب لمصلحة ما سمي “السيمفونية المقلقة” التوزيع الأوركسترالي في ذلك العمل كمشاركة منه في “الكونشرتات الروحية” في عمل راهن عليه كثيراً لكن أحداً لم يشكره عليه بل إن أحداً لم يكلف نفسه عناء نسخ ما كان يدونه.
وعلى رغم ذلك حين دعته موهبته إلى أن يخص باريس بسيمفونية استجاب بسرعة وبخاصة أن الطلب جاءه من صديقه لوغرو الذي تعمد أن يترك له فسحة حرية مطلقة، فكانت النتيجة عملاً كبيراً بدا في نهاية الأمر أشبه بأغنية حب وبفعل غفران وتسامح من الموسيقي النمسوي الشاب تجاه تلك المدينة التي لم تمنعه سماجة بعض أهلها من أن يحبها حتى النهاية.