
الكاتبة ماشا غسن الفائزة بجائزة حنة أرنت (أ ف ب)
في واقعة جديدة تذكّر كثيرا بإلغاء حفلة منح جائزة “ليبراتور” إلى الكاتبة الفلسطينية عدنية شلبي في معرض فرانكفورت للكتاب هذا العام، قرر المسؤولون عن جائزة حنه ارنت إلغاء حفلة الجائزة مساء أول من أمس الجمعة، بعد انسحاب مؤسسة هاينريش بُل التابعة لحزب الخضر الألماني من الجائزة. أما السبب فهو أن الحاصلة على الجائزة، الكاتبة الأميركية اليهودية ذات الأصل الروسي ماشا غسن Masha Gessen، قد انتقدت الوضع البائس لسكان غزة، وشبهته بالوضع في الغيتوات اليهودية خلال الفترة النازية. عقب ذلك عارضت بلدية مدينة بريمن – حيث كان من المقرر أن تقام الحفلة – منح غسن الجائزة، وسحبت موافقتها بتنظيم الحفلة في قاعات مبنى البلدية. لكن اللجنة المنظمة لم تتراجع عن قرارها، وأقامت يوم امس السبت حفلة بسيطة وصغيرة، تسلمت فيها الكاتبة الجائزة وقيمتها المادية عشرة آلاف يورو.
عُرفت ماشا غسن بمقالاتها عن الحكم الشمولي في روسيا وعن الرئيس بوتين، واشتهرت بكتاب بعنوان “المستقبل هو التاريخ: كيف ربحت روسيا الحرية ثم خسرتها” الذي يعرض للأوضاع في روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. وقد نال الكتاب جوائز دولية عدة. ولدت ماشا غسن عام 1967 في موسكو، ثم هاجرت مع عائلتها اليهودية إلى نيويورك في سن الخامسة عشرة. وفي عام 1991، وفي إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، عادت إلى روسيا وبدأت تكتب مقالات لوسائل إعلام أميركية عن المرحلة الانتقالية في روسيا. ونشطت الكاتبة أيضا في مجال الدفاع عن حقوق المثليات والمثليين في روسيا، فتعرضت إلى مضايقات متزايدة من السلطات الأمنية، مما دفعها إلى العودة إلى أميركا في عام 2013، وحصلت في العام نفسه على جائزة “كورت توخولسكي” السويدية، التي تُمنح للكتاب المُلاحقين الذين يعيشون في المنفى.
هل انتقاد روسيا وبوتين أمر مرحب به في الغرب، ويرشح صاحبه للجوائز، في حين أن انتقاد إسرائيل في الوقت الحالي أمر محظور، ويحرم من يمارسه من التكريم والجوائز؟ يبدو هذا!
“في ظلال الهولوكوست”
في مقالها النقدي المثير للجدل “في ظلال الهولوكوست – كيف تحجب سياسة التذكر في أوروبا ما نراه في إسرائيل وغزة اليوم”، المنشور في “نيو يوركر” في التاسع من ديسمبر (كانون الأول)، انتقدت غسن السياسة الألمانية تجاه إسرائيل، وانتقدت كذلك قرار البوندستاغ الألماني الذي يعتبر حركة مقاطعة إسرائيل BDS حركة “معادية للسامية”. أما عن قطاع غزة فقالت ماشا غسن في مقالها: “على مدى السنوات السبع عشرة الماضية، كانت غزة عبارة عن مجمّع سكني، مكتظ بالسكان وفقير ومحاط بأسوار، ولا يحق سوى لجزء صغير من السكان مغادرته فترة قصيرة من الوقت – وبعبارة أخرى، غيتو؛ لا يشبه الغيتو اليهودي في البندقية أو الغيتو اليهودي داخل إحدى المدن الأميركية، بل يشبه الغيتو اليهودي في إحدى دول أوروبا الشرقية التي احتلتها ألمانيا النازية. في الشهرين الماضيين منذ هاجمت حماس إسرائيل، عانى جميع سكان غزة من هجوم القوات الإسرائيلية الذي لم ينقطع. مات الآلاف. وفي المتوسط يُقتل طفل في غزة كل عشر دقائق. لقد قصفت القنابل الإسرائيلية المستشفيات وأقسام الولادة وسيارات الإسعاف، وأصبح ثمانية أعشار سكان غزة بلا مأوى. إنهم يتنقلون من مكان إلى آخر، ولا يستطيعون أبدا أن يكونوا في أمان”.
وقارنت غسن في مقالتها التشبيه الشائع لغزة بأنها “سجن مفتوح” بالتشبيه الذي اختارته، أي “الغيتو”، وتقول إن مصطلح “السجن المفتوح” قد صاغه في عام 2010 ديفيد كاميرون، وزير الخارجية البريطاني الحالي، وقد تبنت العديد من منظمات حقوق الإنسان التي توثق الأوضاع في غزة هذا الوصف. لكن هذا السجن ليس فيه حراس، تماما مثل الغيتوات اليهودية في أوروبا المحتلة. وتضيف ماشا غسن: “من المفترض أن المصطلح الأكثر ملاءمة – أي مصطلح “الغيتو” – كان سيثير انتقادات شديدة بسبب مقارنة الوضع البائس لسكان غزة المحاصرين، بوضع اليهود المحاصرين في الغيتوات. كما كان من الممكن أن يمنحنا مفردات لوصف ما يحدث في غزة الآن: الغيتو تتم تصفيته. لقد ادعى النازيون أن الغتيوات كانت ضرورية لحماية غير اليهود من الأمراض التي ينشرها اليهود. وتزعم إسرائيل أن عزل غزة، مثله مثل الجدار العازل في الضفة الغربية، ضروريان لحماية الإسرائيليين من الهجمات الإرهابية التي ينفذها الفلسطينيون. الادعاء النازي لا أساس له من الصحة، في حين أن الادعاء الإسرائيلي ينبع من أعمال عنف فعلية ومتكررة. هذه اختلافات جوهرية. ومع ذلك، يشير كلا الادعاءين إلى أن سلطة الاحتلال يمكنها باسم حماية شعبها أن تقرر عزل شعب بأكمله، وتعرضه للبؤس – ثم تعرضه للقتل”.
وترجع الكاتبة إلى الأيام الأولى لتأسيس دولة إسرائيل، حيين كانت المقارنة بين الفلسطينيين المهجرين واليهود المشردين حاضرة، لكن سرعان ما تمت إزاحتها. وتستشهد بمقال نشرته صحيفة “معاريف” الإسرائيلية في عام 1948، وصفَ الظروف المزرية التي هُجّر فيها الفلسطينيون من قرية الطنطورة بعد أن احتلتها القوات الإسرائيلية، وكان معظمهم من النساء والأطفال. وتقول غسن إن المشهد أثار في نفس كاتب المقالة المقارنة بين الفلسطينيات اللاتي حاولن الفرار من القرية، و”الأمهات والجدات اليهوديات اللاتي تخلفن في الطرق، في حين كان القتلة في إثرهم”. ثم عقّب الصحافي: “من الواضح أنه لا يوجد مجال لمثل هذه المقارنة. لقد جلبوا (الفلسطينيون) على أنفسهم هذا المصير.”
وتضيف الكاتبة: “رغم أن كلاً من كلمة “النكبة” العربية، وكلمة “شواه” العبرية تعنيان “الكارثة”، ورغم أن هذه المقارنة بين الكارثتين لا مفر منها، فإن عديدا من الإسرائيليين يرفضون المساواة بين الكارثتين، ويؤكدون على أن “الفلسطينيين، وعلى النقيض من اليهود، هم المتسببون في كارثتهم”.
سياسة التذكر الألمانية
هذه التشبيهات التي أثارت الجدل الشديد في ألمانيا ليست في الحقيقة الموضوع الأساسي في مقالة “في ظلال الهولوكوست”. المقالة تتأمل في “ثقافة التذكر” الحاضرة خصوصاً في العاصمة برلين، ونعني تذكر جرائم النازية، وتعهد الألمان بألا “يتكرر هذا أبداً”. تمتدح غسن هذه الجهود الألمانية، وتعتبر أن ألمانيا “فعلت ما لا تقدر عليه معظم الثقافات”، أي أنها اعترفت بجرائم الماضي، وواجهتها. لكن الكاتبة تنتقد أيضاً تلك الثقافة لأنها تحولت في رأيها إلى نوع من “الدوغما”، من العقيدة المتكلسة، والطقوس المتكررة التي لا يتدبر أحد في معناها. وتقول الكاتبة إنها فكرت خلال زيارتها للمتحف اليهودي في برلين في آلاف الفلسطينيين الذي قتلوا في غزة، ثم قالت لنفسها: “لو نشرت هذا في ألمانيا، فقد أواجه مشاكل!” – وهذا ما حدث.
“في ظلال الهولوكوست” مقالة تتأمل في معنى المسؤولية والاعتراف بالذنب، وتبعات ذلك بالنسبة إلى الحاضر، وهي انتقاد لاذع للسياسة الألمانية الحالية وتعاملها مع موضوع “معاداة السامية”، وكذلك قرار البوندستاغ الألماني بتحريم أنشطة حركة مقاطعة إسرائيل BDS – كل ذلك دفع الكاتبة إلى أن تقول في حوار مع صحيفة “دي تسايت” إن “ثقافة تكميم الأفواه” أصبحت هي السائدة الآن في ألمانيا. وتسرد الكاتبة في مقالتها سلسلة من الأحداث التي تبرهن على انتشار “ثقافة الإلغاء” في ألمانيا، مثل سحب جائزة كان مقرراً أن ينالها الفنان اللبناني الأميركي وليد رائد، وسحب جائزة نيلي زاكس من الكاتبة الإيرانية كاميلا شمسي، هذا إضافة إلى إلغاء دعوات، وبرامج ثقافية، أو عروض فنية، أو سحب أفلام من العرض التلفزيوني (كما كتبت في اندبندنت عربية في 20 نوفمبر/تشرين الثاني). كل هذا دفع بالكاتبة إلى القول في أحاديث صحافية: “الأرجح ألا تحصل حنه أرنت اليوم في ألمانيا على جائزة حنه أرنت”.
حنه أرنت والفكر السياسي
وجائزة حنه أرنت للفكر السياسي جائزة تمنحها منذ عام 1995 مؤسسة هاينريش بُل التابعة لحزب الخضر، مع مجلس وزراء ولاية بريمن، وتُمنح لأشخاص يساهمون في الفكر السياسي العام، ويمثلون امتداداً لتراث المفكرة اليهودية الألمانية الأصل حنه أرنت (1906 – 1975).
وكانت الجمعية الألمانية الإسرائيلية، فرع بريمن، قد اعترضت على منح الجائزة لماشا غسن معتبرة أن أقوال الكاتبة تتناقض مع أفكار حنه أرنت، وأن غسن تدعم “الحكم المسبق الراسخ عن الدولة اليهودية”. والحقيقة أن أفكار غسن تتوافق مع أفكار الفيلسوفة حنه أرنت التي كانت من منتقدي السياسة الإسرائيلية، لأنها أدركت منذ الثلاثينيات أن دولةً قومية تقوم على استخدام العنف، وتلفظ الأقليات العرقية، لا يمكن أن تتوافق مع مفهومها الإنساني عن الدولة المدنية. رفضت أرنت السمة العسكرية للدولة الإسرائيلية لدى نشوئها وكذا تبعيتها للقوى العظمى، وأدركت أن ذلك سيكون مصدراً للعزلة المتزايدة للدولة الوليدة، وللكراهية المتنامية في المنطقة. لم تستطع المفكرة السياسية أن تقبل مشروعاً عسكرياً مثل المشروع الصهيوني، ولا مشروعاً تبشيرياً يدعو إلى العودة إلى “بلاد الأسلاف” كوطن مثيولوجي.
ثم جاءت محاكمة النازي أدولف أيشمان في القدس عام 1961 التي حضرت أرنت جلساتها، وكتبت سلسلة من المقالات التي نشرت في مجلة “نيو يوركر” أيضاً، وصدرت لاحقاً في كتاب “أيشمان في القدس – تقرير عن تفاهة الشر” الذي أثار ضجة كبيرة، لا سيما عندما اعتبرت أيشمان نموذجاً للإداري التكنوقراطي الذي يرتكب أبشع الجرائم بضمير مستريح ومن دون أن يرف له جفن. نزع تعبير “تفاهة الشر” أو “عادية الشر” القناع الشيطاني عن الجناة، مصوراً أحدهم موظفاً بورجوازياً تافهاً، وليس شيطاناً سادياً أو شاذاً كما حاول الادعاء الإسرائيلي أن يصوره، بل شخصاً عادياً تماماً، ومرعباً في عاديته. أما ما لم يغفره لها يهود كثر حتى اليوم، فهو فضحها دور المجالس اليهودية في التعاون و”العمالة” مع النظام النازي عبر إعداد قوائم بأسماء اليهود في ألمانيا وتسليمها للنازيين. كشفت أرنت هذا الدور بكل قسوة ونقد ذاتي، مما زعزع الاعتقاد الصهيوني في كون اليهود “ضحايا دائمين”، وهو ما جلب على المفكرة اليهودية تهمة “معاداة السامية”.
حقاً، لو كانت حنه أرنت تحيا اليوم في ألمانيا، لاتهمت ربما بمعاداة السامية ودعم حركة مقاطعة إسرائيل المحرمة في ألمانيا، ولفقدت على الأرجح وظيفتها في الجامعة مثلما حدث في جامعات أميركية في حالات مشابهة، وبالطبع لم تكن لتنال جائزة “حنه أرنت للفكر السياسي”!