ملخص
قد تنجح الدولة الإيرانية في تمرير هذه المرحلة بمزيج من الرمزية والتكتيك، ولكنها لا تستطيع إلى الأبد أن تتهرب من سؤال الشعب الجوهري: من يحكمنا فعلياً؟ وأين كان حين كنا نخوض حرباً؟
في زمن الأزمات لا يقاس ثقل الدول فقط بما تملكه من سلاح أو تحالفات، بل بما تبثه رموزها من طمأنينة في وجدان شعوبها. وإيران الدولة التي بنت شرعيتها منذ عام 1979 على شخص “الولي الفقيه”، وجدت نفسها فجأة في معضلة غير مألوفة: رأس النظام غائب في لحظة مواجهة وجودية مع إسرائيل، والشارع يسأل للمرة الأولى بهذه العلانية: أين القائد؟ وهل ما يزال يمسك بالخيوط؟
في ذروة القصف المتبادل مع تل أبيب، ومع تصاعد التهديدات من واشنطن، خلت شاشات الدولة من صورة علي خامنئي. لا خطابات، لا لقاءات، ولا حتى تعزية بضحايا الحرب، اختفى والصمت صار رسالة بحد ذاته. من داخل البنية المحافظة للنظام تسربت معلومات غير رسمية تقول إن المرشد نقل إلى ملجأ شديد التحصين في طهران، بعيداً من أي نشاط علني. هذا النوع من الملاجئ المعروف اصطلاحاً باسم “بونكر”، هو منشأة تحت الأرض مصممة لتحمل الهجمات الجوية والصاروخية تستخدم عادة في حالات الطوارئ القصوى لحماية الشخصيات الحساسة ومراكز القيادة من الاستهداف المباشر، لم يكن ذلك مفاجئاً في ظل التهديدات النوعية، لكن المفاجئ أن ذلك الغياب امتد طوال أيام المعركة، مما فتح المجال لتكهنات لا سقف لها.
في إيران حيث تتماهى الدولة مع القائد يصبح الغياب أكثر من فراغ سياسي، بل خللاً في التوازن الرمزي، ولعل النظام أدرك متأخراً أن هذا الفراغ لا يملأ بإعلانات رسمية أو بيانات مكتوبة، لهذا جاءت العودة مدروسة ومحسوبة في ليلة لا تحتمل التأويل: عاشوراء. الظهور لم يكن سياسياً تقليدياً، بل أشبه بتجلي طقسي أراده الإعلام الرسمي استدعاء لصورة الحسين في كربلاء: رجل صامت في قلب مراسم الحزن يحدق إلى الأمام من دون أن يتكلم. لم تكن الكاميرا تبحث عن الكاريزما، بل عن الرمز. صورة بلا صوت، حضور بلا خطاب، كأن الصمت نفسه هو الرسالة: القائد هنا، ولو لم يتكلم.
لكن السؤال الذي فجرته تلك العودة لم يكن عن وجود خامنئي، بل عن كيفية إعادة هندسة موقعه الرمزي بعد هذا الغياب. هل ما زالت إيران قادرة على الاعتماد على “الولي الفقيه” كنقطة ارتكاز روحية وسياسية؟ أم أن النظام يتهيأ فعلياً لما بعد خامنئي، عبر تحويله إلى مرجع أبدي تتوارى خلفه النخب الفعلية التي تدير اللعبة من وراء الستار؟
يبدو أن النظام اختار بوعي أن ينزل خامنئي من منصة القيادة التنفيذية إلى “مقام القداسة الرمزية”، حضور المرشد في الحسينية، وليس في مقر القيادة، هو إشارة واضحة إلى التحول الجاري. لم يعد هو من يخطب في الأمة ويوجه الجبهات، بل من يستحضر بوصفه ضمانة للصمود لا للمبادرة، وهذا النمط من القيادة، وإن بدا مريحاً للنظام داخلياً، يحمل في طياته خطراً استراتيجياً: ما الذي يحدث إذا بدأ الشارع يشكك في أن من يظهر رمزياً لم يعد قادراً على الفعل الواقعي؟ هنا تتقاطع اللحظة الإيرانية الراهنة مع أزمات مشابهة في التاريخ السياسي الحديث: اللحظة التي يتحول فيها القائد من صانع قرار إلى شخصية فوق السياسة، مثل هذه اللحظات لا تبشر عادة بالثبات، بل تشير إلى اقتراب انتقال في السلطة سواء أعلن أم لم يعلن. الفرق في إيران هو أن النظام لا يعد بديلاً واضحاً، بل يراكم الغموض كاستراتيجية، ويمنع طرح السؤال الأساسي: من بعد خامنئي؟
ترمب يرد على خامنئي: أنقذتك من “موت مهين” و”هزمت شر هزيمة”
خامنئي وتحدي مواجهة تداعيات الضربات العسكرية
لذلك فإن ظهور المرشد ليلة عاشوراء لم يكن فقط محاولة لتبديد الإشاعات حول وفاته أو مرضه، بل إعادة تشكل للصورة ضمن سردية دينية مألوفة للشارع الإيراني: صمت الحسين قبل الكارثة، حضور الحاكم العادل في لحظة الحزن، واستدعاء مظلومية كربلاء كدرع ضد النقد. إنها محاولة لإقناع الإيرانيين بأن القائد لم يتراجع، بل ارتقى إلى مستوى أعلى من السياسة.
ومع ذلك لا يمكن إغفال أن “الرمزية” مهما كانت مؤثرة لا تحسم معادلات السلطة في عالم يتغير بوتيرة سريعة، فإيران اليوم تحت ضغط اقتصادي هائل وعقوبات خانقة وتوترات إقليمية لم تهدأ، ولا تحتمل الفراغ ولا التجميد في أعلى هرمها. وحين يشعر الشارع أو حتى مؤسسات الدولة أن مركز القرار بات غامضاً أو بعيداً، تبدأ ديناميكيات جديدة بالتحرك داخل الأجهزة وفي أروقة الحرس، بل وحتى في صفوف من كانوا يوماً أقرب المبايعين.
ربما أرادت القيادة الإيرانية أن تجعل من ظهور خامنئي في عاشوراء لحظة استعادة للثقة، لكن الواقع أنها كشفت من حيث لا تقصد عن هشاشة اللحظة الإيرانية الراهنة، فحتى الخطاب الرسمي لم يستطع أن يخفي أن البنية القيادية تعاني: لا خليفة واضحاً، لا خريطة طريق سياسية بعد الحرب، ولا تفسير لقرارات مفصلية يغيب عنها رأس النظام.
إن أخطر ما أفرزته الحرب الأخيرة لم يكن الضرر المادي أو التهديد الخارجي، بل كشفها للداخل الإيراني: جمهور يعيش على كثير من التناقضات، ونظام يجري عملية إعادة اختراع لذاته، ومرشد تعاد كتابته كشخصية ماورائية، بينما الأرض السياسية تتحرك تحت أقدام الجميع.
إيران التي خرجت من الحرب الأخيرة ليست إيران ما قبلها، لقد سقطت بعض أساطير المناعة وتسللت الشكوك حتى داخل النواة الصلبة للنظام، وما الظهور الأخير لخامنئي إلا محاولة لترميم الأسطورة لا تثبيت الواقع.
في النهاية قد تنجح الدولة الإيرانية في تمرير هذه المرحلة بمزيج من الرمزية والتكتيك، ولكنها لا تستطيع إلى الأبد أن تتهرب من سؤال الشعب الجوهري: من يحكمنا فعلياً؟ وأين كان حين كنا نخوض حرباً؟