ورقة باراك ليست مجرد مبادرة أميركية للبنان بل فصل جديد في إعادة ترتيب المشرق ونجاحها يتوقّف على قدرتها على التحوّل من عرض مشروط إلى مشروع شراكة يضمن العدالة والمواطنة والأمن لكل اللبنانيين.
أثار الجدل أكثر مما قدم الحلول
المقترح الذي قدمه المبعوث الرئاسي الأميركي توماس باراك خلال زيارته إلى بيروت في يونيو الماضي، ارتكز على عناوين عدة، أولها وأهمها نزع سلاح “حزب الله” وحصره بيد الدولة، مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من نقاط حدودية جنوب لبنان، وتقديم مساعدات اقتصادية مشروطة.
الورقة أثارت جدلا أكثر ممّا قدمت حلولا.. هناك من وصفها بالفرصة التاريخية ومن نعتها بورقة “استسلامية”، تُعيد صياغة خارطة القوى في لبنان وتطرح تحديًا مركّبًا على المستويين الداخلي والإقليمي.
الورقة لا تكتفي بنزع الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة خلال ستة أشهر، بل تُعيد تعريف أدوار “حزب الله” والمؤسسات الاقتصادية التابعة له، من “القرض الحسن” إلى المعابر الحدودية. كما تشترط تفعيل التنسيق الأمني – السياسي مع سوريا، وترسيم الحدود البحرية والبرية، مع اعتبار مزارع شبعا أراضٍ سورية، لا لبنانية. هذه البنود تضرب في العمق النظام الرمزي الذي بُني عليه خطاب المقاومة منذ التسعينات.
◄ إقليميًا، ستخفف إيران من حضورها العلني وتُوسّع نفوذها في مناطق أخرى. وقد تعزز إسرائيل علاقاتها التطبيعية عبر تقديم نفسها كـ”المبادر للسلم”
لكن الأكثر لفتًا هو مبدأ “الخطوة مقابل خطوة”، حيث تبدأ الإجراءات شمال الليطاني، فيما تتعهّد واشنطن بالضغط على إسرائيل للانسحاب من خمس نقاط حدودية فقط. أي أن ثمن نزع السلاح لا يُقابله بالضرورة اعتراف متبادل أو تسوية عادلة. وهذا ما يُحوّل الورقة من مبادرة سلام إلى عرض مشروط تتفوّق فيه القوة على تحقيق العدالة والإنصاف.
رغم أن الحكومة اللبنانية سلّمت ردًا من سبع صفحات أبدت فيه استعدادًا لمبدأ الخطوات المتزامنة، فإنها تجنّبت أيّ تعهد زمني واضح. الرئاسات الثلاث، بدورها، أجمعت على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، لكن تحفظت على توقيت التنفيذ وهيكليته. أما حزب الله، فوصف الورقة بأنها “استسلامية”، رافضًا التخلي عن السلاح ما لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية ويتحقق إجماع وطني.
هذا التباين يعكس طبيعة الأزمة اللبنانية؛ فالانقسام ليس فقط حول السلاح، بل حول تعريف الدولة، ومشروعها، وحدود دورها الإقليمي. إن لم يُربط نزع السلاح بإصلاح طائفي شامل، فقد يُفسَّر لدى جمهور واسع بأنه استهداف لطائفة بعينها، ما يُعيد إنتاج الانقسام بدل تجاوزه.
كذلك، يُلقى على الجيش اللبناني عبء تنفيذ الورقة، رغم أن قدرته التقنية وموقعه في المعادلة السياسية لا يتيحان له فرض رؤية طرف على آخر. فمن دون دعم دولي متماسك وإجماع داخلي صريح، يُخشى من انقسام المؤسسة الأمنية أو تحييدها بالكامل.
◄ هناك من وصفها بالفرصة التاريخية ومن نعتها بورقة “استسلامية”، تُعيد صياغة خارطة القوى في لبنان
سياسيًا، تستهدف الورقة تقليص النفوذ الإيراني في لبنان دون مواجهته مباشرة. طهران، التي تعتبر “حزب الله” أحد أعمدة ردعها الإقليمي، قد ترى فيها تجاوزًا أميركيًا يستدعي الرد عبر توسيع النشاط في سوريا والعراق أو تصعيد الحضور في الضفة الغربية.
أما إسرائيل، فتحقق مكاسب رمزية دون تنازلات حقيقية. الانسحاب الجزئي من النقاط الحدودية يُقدَّم كإجراء لبناء الثقة، لكنه لا يتضمّن أيّ اعتراف بحقوق لبنانية في مزارع شبعا أو تعويض للأسرى أو المتضررين من عدوان يوليو. بذلك، تصبح الورقة توظيفًا للدبلوماسية كواجهة لإعادة ترسيخ هيمنة إسرائيلية ناعمة.
في المقابل، يندرج بند ترسيم الحدود مع سوريا ضمن محاولة أميركية لإعادة ترتيب العلاقة الثنائية، وإشراك دمشق في مسار سلمي قد يُضعف قدرتها على تبرير التحالفات العسكرية. لكن النظام السوري، الرافض رسميًا لاعتبار شبعا أراضي سورية، قد يُفسّر هذا التعديل الحدودي بوصفه خطوة نحو تخفيف دوره في المقاومة، وهو ما سيؤثر على شرعيته الرمزية في الداخل والخارج.
لتبقى سيناريوهات ما بعد الورقة مفتوحة على أربعة احتمالات:
الاحتمال أو السيناريو الأول، تفاهم داخلي جزئي تتفق فيه القوى اللبنانية على تنفيذ بعض البنود دون نزع شامل للسلاح، يُهدّئ الوضع مؤقتًا لكنه لا يُعيد بناء الدولة أو يحقّق عدالة حقيقية.
أما السيناريو الثاني، فهو رفض حزب الله الكامل للورقة وهو ما يؤدي إلى شلل سياسي وتصعيد إعلامي، واحتمال تفجّر التوتر الأمني خصوصًا في الجنوب.
◄ الورقة لا تكتفي بنزع الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة خلال ستة أشهر، بل تُعيد تعريف أدوار “حزب الله” والمؤسسات الاقتصادية التابعة له، من “القرض الحسن” إلى المعابر الحدودية
ثالث السيناريوهات، يتمثل في فرض خارجي قسري، في حال قرّرت واشنطن أو تل أبيب فرض الورقة بالقوة، وهو ما يُهدد بانفجار داخلي وتحشيد إقليمي مضاد.
أما السيناريو الأخير، فهو وساطة دولية متوازنة تؤدي إلى صيغة تنفيذية أكثر قبولًا عبر إشراك الأوروبيين أو أطراف عربية، لكن نجاحها مرهون بمدى قدرة الوسيط على ضمان توازن المصالح.
وفي حال طُبّقت الورقة تدريجيًا، سيُعاد توزيع السلطة الأمنية، ويبدأ الجيش بالانتشار جنوبًا. ويتم غلق عدد من المؤسسات الاقتصادية المرتبطة بالحزب، ويبدأ خطاب إعلامي جديد يُروّج لفكرة “السلام المتعدد” بدل المقاومة. شباب من بيئة الحزب يدعون إلى إعادة تعريف دوره سياسيًا، فيما تستفيد الطبقات الفقيرة من دعم اقتصادي مشروط.
إقليميًا، ستخفف إيران من حضورها العلني وتُوسّع نفوذها في مناطق أخرى. وقد تعزز إسرائيل علاقاتها التطبيعية عبر تقديم نفسها كـ”المبادر للسلم”. أما سوريا، فتُرغَم على الدخول في حوار ترسيم وتنسيق، مع احتفاظها بهوامش خطابية تُبقي على رمزية المقاومة.
لكن في ظل كل ذلك، يبقى التحدّي الأكبر هل يمكن للبنان أن يتحوّل إلى نموذج سلام دون تسوية عادلة؟ وهل يُعاد بناء الدولة من خلال نزع سلاح طرف واحد دون إصلاح منظومة كاملة حكمت البلاد لعقود؟
ورقة توماس باراك ليست مجرد مبادرة أميركية للبنان، بل فصل جديد في إعادة ترتيب المشرق السياسي. نجاحها يتوقّف على قدرتها على التحوّل من عرض مشروط إلى مشروع شراكة حقيقية يضمن العدالة والمواطنة والأمن لكل اللبنانيين. وإلا، ستبقى بندًا إضافيًا في سجل المبادرات التي تفكك أكثر مما تُصلح، وتُعيد إنتاج التوتر بدل تجسير الهوّة.