ملخص
منذ عقود، تعرض جبل العرب لوصاية أمنية ثقيلة جعلت من كل شيخ مهدداً وكل ناشط ملاحقاً. ما يريده أهل السويداء اليوم هو أن تنتهي هذه المرحلة وأن يتعامل معهم النظام، أو الدولة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع كشركاء، لا كخطر يجب احتواؤه. دروز السويداء يريدون أن يكونوا جزءاً من سوريا، لكن سوريا التي تحترم كرامتهم، لا تلك التي ترسل البدو مدعومين بالسلاح ليذلوهم، أو تلتزم الصمت حين تهان شوارب شيوخهم. يريدون دولة لا ميليشيات، وشراكة لا إذعان. يريدون وطناً يتسع لهم، لا نظاماً يذكرهم كل يوم بأنهم طائفة صغيرة يجب أن تصمت أو تعاقب.
ما شهدته محافظة السويداء في سوريا خلال الأيام الأخيرة لم يكُن وليد لحظة ولا نتيجة حادثة عابرة، بل هو تتويج لمسار طويل من التراكمات السياسية والاجتماعية والأمنية، بدأ مع انهيار الدولة المركزية، وتفاقم الفوضى في الجنوب السوري، فتحول الجبل إلى ساحة صراع غير معلن بين قوى داخلية وخارجية تسعى إلى تثبيت موطئ قدم.
في قلب هذا المشهد، برز الانقسام داخل المرجعية الدينية الدرزية كعامل حاسم في الوصول إلى الانفجار، فبدلاً من أن يخرج صوت واحد موحد يمثل الجبل ويدير التحديات بحكمة وصلابة، تعددت الأصوات والمواقف، وتضاربت الرؤى بين من يرى ضرورة الدخول في مسار تسوية مع النظام في دمشق، ومن يرفض أي تنسيق مع سلطة يعتبرها مسؤولة عن التهميش والانهيار، ولاحقاً الاقتتال وحمامات الدم.
وهذا الانقسام أربك الشارع وشتت القرار وفتح الباب لتدخلات خطرة من أطراف مسلحة، بدوية وتنظيمية، لا ترى في السويداء سوى فراغ قابل للاستثمار. وهكذا، ومع غياب خطة موحدة، تحولت بعض البلدات إلى جبهات، والكرامة التي كثيراً ما حمت الجبل، أصبحت عذراً لمعارك عبثية لم يربح فيها أحد، سوى أولئك الذين أرادوا إسقاط هيبة السويداء من الداخل.
وما حدث ليس مجرد صدام بين فصائل، بل نتيجة لفراغ قيادي وانقسام نخبوي واستفراد بطائفة دُفعت قسراً نحو الزاوية، ثم تركت تنزف وحدها. وما يحدث في السويداء ليس مجرد اشتباكات محلية بين أبناء جبل يذودون عن أرضهم وكرامتهم، وبين مجموعات قبلية مدعومة من النظام في دمشق وأجهزته الأمنية، بل هو استهداف ممنهج لهوية طائفة كاملة ومحاولة لإذلال مجتمع كثيراً ما كان عصياً على التطويع.
فمشاهد قص شوارب الشيوخ، ونتفها عن وجوههم في مشهد لا يحتمل، لم تكُن فقط إذلالاً لأفراد، بل كانت محاولة لقتل الرمز ولتكسير الهيبة وهزيمة النفس. في بيئة تقدس الشوارب كجزء من شرف الرجال وعلامة رجولتهم، جاءت هذه الإهانات كمجزرة معنوية لا تقل فظاعة عن إحراق البيوت والتمثيل بالجثث وإعدامات ميدانية وفظائع لم يكشف النقاب عنها بعد لأن هناك قرى وأحياء لا يستطيع الأهالي الوصول إليها حتى اللحظة، وتحذر مجموعات داخلية على تطبيق “واتساب” من أن بعض الأبنية ما زالت تضم مسلحين أو قناصين.
والأكثر وجعاً كان صمت الدولة السورية، أو بالأحرى تواطؤها، بداية المعارك، فالقوات التي دخلت تحت راية “التهدئة” كانت جزءاً من آلة التنكيل، أو سكتت عن المجازر وهي تقع أمام أعينها، وأمام أعين العالم في مشاهد وثقت بالصور والفيديوهات. وفي رأي بعض من استمزجت “اندبندنت عربية” آراءهم من داخل السويداء، أن “هذا ليس غريباً عليهم، فخلال عهد النظام السابق عومل الدروز كخزان بشري وجغرافي قابل للتهميش عند اللزوم، ولم يكُن تعامل النظام الجديد أفضل من حكم آل الأسد، وأن المجتمع الدولي استبدل ديكتاتور بديكتاتور آخر، وكأن انضباطنا التاريخي ورفضنا للفتن الطائفية أصبحا تهمة”.
اختبار أخلاقي وسياسي
الحقيقة أن ما جرى في السويداء هو امتداد لسياسة تطبق منذ عقود، تريد أن تفرض على الجبل خياراً مستحيلاً، إما الخضوع الكامل، أو الفوضى والتدمير. وعندما اختار الدروز أن يديروا شؤونهم بأنفسهم في معادلة لا سلاح فيها ولا عداء لأي طرف، جرى استفزازهم وسربت الميليشيات، ثم أطلق العنان للدم، لكن الجريمة هذه المرة كانت مزدوجة، دم أريق وكرامة انتزعت أمام الكاميرات.
أتذكر هنا مشهداً مر على وسائل التواصل عند سقوط نظام بشار الأسد، مذيع يسأل شيخاً درزياً جليلاً كان يجلس أمام داره، “لماذا أنت سعيد يا عم؟”، فأجاب الشيخ الثمانيني أنها “للمرة الأولى يا ابني منذ 50 عاماً، أجلس مرتاح البال أن لا استخبارات تراقبنا ولا نظام يقمعنا”. واستحضار هذه الحادثة للإشارة إلى مدى استبشار أهالي السويداء بسقوط النظام وانبثاق فجر جديد، لكن ذلك لم يتحقق حتى الآن.
وفي عالم ما بعد الثورة السورية، لا يمكن تبرير هذه المجازر بأنها “أحداث محلية”، فالدولة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع أمام اختبار أخلاقي وسياسي حاسم. هل ستقبل أن تعامل أقلية تاريخية بهذه الوحشية؟ وهل تريد أن تبني سوريا على ركام مجازر السويداء؟
فالدروز ليسوا عبئاً، لكن كرامتهم خط أحمر، وهم شركاء أصيلون في صياغة مستقبل سوريا، كيف لا، وهم من مؤسسي الدولة السورية، وهم كانوا وقود الثورة السورية الكبرى التي اندلعت من جبل العرب، معقل الدروز، بقيادة سلطان باشا الأطرش بوجه المحتل الفرنسي حينها عام 1925 أي منذ 100 عام، لكن صورة الزعيم الوطني الكبير داستها أقدام الوافدين الجدد الذين دخلوا حاملين السيوف ومهددين بقتل “الخنازير الدروز”.
وأمام هذا الانهيار الأخلاقي، لم يعُد التنديد كافياً، بل يجب محاسبة الجناة والكشف عن المتورطين ووقف محاولات تركيع السويداء وإخضاعها بالقوة.
وأشار “المرصد السوري لحقوق الإنسان” إلى الكارثة الإنسانية التي تعصف بمحافظة السويداء، عقب أربعة أيام دامية من العنف والانتهاكات أودت بحياة مئات السوريين، وتسببت بدمار واسع في الممتلكات العامة والخاصة، وانهيار شبه كامل للواقع المعيشي والخدمي في المدينة. وتابع أن “السويداء تحولت اليوم إلى منطقة منكوبة، في ظل خلو الأسواق من المواد الغذائية والأدوية وغياب الخدمات الأساسية، إضافة إلى نهب المحال التجارية وحرق المنازل، وتضرر كثير المستشفيات والمراكز الصحية، مما جعل الحياة فيها أقرب إلى الانهيار الشامل”.
وطالب الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا الشيخ حكمت الهجري بفتح ممرات باتجاه مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والأردن، معلناً الحداد العام في المحافظة. وقال ضمن بيان “نطالب بفتح الطرق باتجاه الأخوة الأكراد وندعو جلالة الملك عبدالله الثاني في المملكة الأردنية الهاشمية إلى التوجيه بفتح معبر حدودي بين السويداء والأردن لما لهذه الطرق من أهمية إنسانية في هذه اللحظات الحرجة”.
وتحدث الهجري في بيان اليوم الخميس عن “لحظات عصيبة” تمر بها محافظة السويدا، بعد “استهداف المدنيين العزل وقتل الأبرياء بوحشية”، معلناً السويداء “بلداً منكوباً”.
حكومة دمشق تسحب قواتها من السويداء
كانت حكومة دمشق أعلنت سحب القوات السورية من السويداء، أمس ليلاً، وربط الإعلان ببيان وزارة الخارجية الأميركية الذي دعت خلاله سوريا إلى سحب قواتها للسماح بخفض التصعيد، كما ربط بالهجمات الإسرائيلية التي استهدفت فيها مجمع وزارة الدفاع والقصر الرئاسي، وتوعد تل أبيب بتدمير قوات الحكومة السورية التي تهاجم تجمعات درزية في جنوب سوريا وطالبتها بالانسحاب، ولاحقاً سرت معلومات عن أن الجيش الإسرائيلي يستعد لأيام عدة من القتال ضد النظام السوري.
وتلقت وحدة المظليين القتالية الأوامر بالاستعداد للتحرك نحو الشمال، والفرقة 98 تستعد لمغادرة غزة، وأعطى رئيس الأركان إيال زامير تعليمات بضرب أهداف تابعة لحكومة دمشق بكثافة متزايدة، فيما أشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أنه “يتعين على الشرع أن يقرر ما إذا كان يريد حماية الدروز أو الموت”، وصعدت إسرائيل من لهجتها وصولاً إلى التهديد باجتياح بري.
حرب درزية “وجودية”
وكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو توجه إلى مواطني إسرائيل من أبناء الطائفة الدرزية بعد نجاح مئات منهم في العبور عبر السياج الحدودي إلى الأراضي السورية، قائلاً إن “الجيش الإسرائيلي يعمل وسلاح الجو يعمل وقوات أخرى تعمل، ونحن نعمل لإنقاذ إخواننا الدروز والقضاء على عصابات النظام (السوري)”. وتابع “والآن لدي طلب واحد منكم، أنتم مواطنو إسرائيل. لا تعبروا الحدود”، موضحاً أنه إضافة إلى أن من يعبرون الحدود “يخاطرون بحياتهم وقد يقتلون أو يُخطفون”، فإنهم أيضاً “يضرون بجهود الجيش الإسرائيلي”، وقال “لذلك، أطلب منكم، عودوا لدياركم ودعوا جيش الدفاع الإسرائيلي يعمل”.
وجاء تحرك الدروز بعد أن حثت قيادتهم الروحية في إسرائيل جميع أبناء الطائفة على الاستعداد بجميع الوسائل الممكنة لعبور الحدود بهدف “مساعدة الإخوة المذبوحين في سوريا”، ودعا الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل الشيخ موفق طريف، نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس إلى “الوفاء بالتزاماتهما بحماية الدروز في سوريا”.
p2_(1).jpeg
تصاعد الدخان إثر غارات إسرائيلية قرب مدينة السويداء عقب الاشتباكات التي اندلعت بين قبائل بدوية ومقاتلين دروز في 15 يوليو (أ ف ب
وعبر بيان نقلته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، أعرب طريف عن قلقه إزاء ما وصفه بـ”مجزرة مروعة ووحشية” تحدث في جبل الدروز جنوب سوريا، حيث “يقتل مدنيون أبرياء، نساءً وأطفالاً وشيوخاً بدم بارد”، وانتقد عدم اتخاذ الجيش الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية “أي إجراء حقيقي لوقف هذا القتل، على رغم تعهداتهما الصريحة”. وطالب بشن “غارات جوية فورية تحبط القوات الإجرامية العاملة جنوب سوريا”، محذراً من أن عدم اتخاذ إجراء حاسم سيؤدي إلى “تفاقم الأزمة بيننا ودولة إسرائيل بصورة خطرة وغير مسبوقة”.
وأشار إلى أنه “على نتنياهو وكاتس أن يختارا الشراكة مع الطائفة الدرزية أو مع ’داعش‘”، واصفاً عدم ردع القوات السورية الحكومية بأنه “انهيار عميق ومؤسف في التحالف التاريخي والأخلاقي بين دولة إسرائيل والطائفة الدرزية”، ولفت إلى تضحيات الدروز في إسرائيل خلال “حرب دولة إسرائيل ضد أعدائها”. وتابع أنه “يجب إجبار النظام السوري على الانسحاب من السويداء، فهذه معركة وجود”. ودعا القيادة الروحية للطائفة الدرزية ورؤساء السلطات الدرزية إلى “أيام حداد وطني وإضراب عام”.
وتداولت وسائل التواصل الاجتماعي فيديو للشيخ طريف خلال اجتماع مع جنرالات من الجيش الإسرائيلي يبدو فيه غاضباً وارتفع صوته. وكانت إسرائيل تعهدت بـ”حماية دروز سوريا وإقامة منطقة منزوعة السلاح جنوب البلاد”.
الشرع: “الدروز جزء من نسيج الوطن، وحمايتهم أولوية”
وفي أول تصريح للشرع حول الأحداث الأخيرة في السويداء والغارات الإسرائيلية التي رافقتها، وصف بأنه “الأقوى” منذ توليه السلطة في سوريا، اتهم إسرائيل بـ”خلق الفتن داخل سوريا”، وأضاف أنها “تسببت في تصعيد الوضع (في محافظة السويداء) بتصرفاتها”.
وتوجه الشرع إلى المواطنين الدروز، قائلاً “نرفض أي مسعى يهدف إلى جرّكم لطرف خارجي أو إحداث انقسام داخل صفوفنا”. وتابع “أصبحنا أمام خيارين إما مواجهة إسرائيل أو إصلاح جبهتنا الداخلية”، مضيفاً “لسنا ممن يخشون الحرب، ونحن الذين قضينا أعمارنا في مواجهة التحديات والدفاع عن شعبنا، لكننا قدمنا مصلحة السوريين على الفوضى والدمار”، وأعلن “تكليف الفصائل المحلية وشيوخ العقل مسؤولية حفظ الأمن في السويداء”.
وأكد “سنواجه محاولات خلق الفوضى بالوحدة… سوريا لن تكون مكاناً لخلق الفوضى، ولن نسمح بجرّ سوريا إلى حرب جديدة”، مشدداً على رفض “أية محاولة لتقسيم البلاد”. وقال الشرع إن “الدروز جزء من نسيج الوطن، وحمايتهم أولوية”، متعهداً بـ”محاسبة من تجاوز وأساء إلى أهلنا الدروز” في السويداء.
استهداف قنوات… محاولة لكسر عمامة الاعتدال
وحصلت “اندبندنت عربية” على معلومات خاصة أفادت بأن الشيخ حكمت الهجري كان هدفاً للاغتيال في محاولة لتحييده، وبالفعل تعرضت بلدة قنوات، أي مسقط رأس الشيخ الهجري، للقصف براجمات صواريخ وحلقت مسيّرات “شاهين” فوق دارته. فقنوات ليست مجرد بلدة، بل هي إحدى أبرز الحواضن الرمزية للقيادة الدينية، ومركز ثقل روحي وتاريخي للجبل، ومن يهاجم قنوات يعرف جيداً ماذا يفعل. فالرسالة لم تكُن عسكرية، بل سياسية خالصة، أي كسر الهالة التي تحيط بالشيخ الهجري وشل قدرته على التأثير وتحجيم نفوذه داخل الطائفة، كما أن الشيخ الهجري لم يكُن يوماً داعية حرب، بل بقي طوال الأعوام الماضية صوتاً للتوازن والعقل، رافضاً عسكرة الجبل أو تحويله إلى منصة لأي مشروع إقليمي. وهذا تحديداً ما جعله مزعجاً لكل من يريد حسم الأمور بالسلاح، للنظام الذي يضيق ذرعاً بأية مرجعية مستقلة ولخصومه الذين يريدون استقطاب الجبل لمعسكراتهم.
صدى السويداء يلامس الجوار من إسرائيل إلى العراق والأردن
وسابقاً وبعد المجازر التي حصلت في بلدتي جرمانا وصحنايا الدرزيتين في مايو (أيار) الماضي، أظهرت السلطة في دمشق وجهاً مختلفاً، فلم تدِن العنف ولم تحاسب المجرمين، بل حاولت قطف ثماره سياسياً، ففي الكواليس دارت محاولات لعزل الشيخ الهجري، أو في الأقل تجريده من غطائه الشعبي وإحلال شخصيات بديلة أكثر “مرونة”، لكن استهداف قنوات جاء بنتائج عكسية، فزاد من شعبية الهجري وأعاد تكثيف الالتفاف حوله كصوت وحيد لم يساوم. ومحاولة تحييده لم تكُن مجرد خطأ سياسي، بل مقامرة على حساب وحدة الجبل واستقراره.
هل نكثت الحكومة السورية بتعهداتها تجاه السويداء؟
ليس سراً أن الشيخ حكمت الهجري كان يحاول منذ أعوام أن يحافظ على توازن دقيق من خلال الحفاظ على كرامة الطائفة الدرزية وتجنب الانزلاق إلى صدام مباشر مع النظام السابق، ومع رفضه القاطع لأي استتباع أو إملاءات من دمشق أو من خارجها. وتمترس الرجل خلف خطاب ديني معتدل ووسطي ومسؤول، رافضاً عسكرة الجبل أو جره إلى مشاريع انفصال أو تحالفات خارجية، لكن خلال أحداث الأيام الأخيرة، بدا واضحاً أن الحكومة السورية الجديدة استدرجت الشيخ الهجري إلى مصيدة سياسية، فبادئ الأمر أرسلت وفوداً رسمية تحمل وعوداً بالتهدئة، وتعهدات بسحب المهاجمين وعدم المساس بالأهالي، ثم فجأة انقلبت المعادلة. جرى الهجوم على القرى، فأحرقت البيوت وارتكبت مجازر وأهين الشيوخ أمام الكاميرات.
ولا يمكن تفسير هذه الوقائع إلا بأحد أمرين، إما أن الدولة السورية لا تملك السيطرة الكاملة على ميليشيات البدو والمسلحين الذين يعملون تحت عباءة بعض أجهزتها، أو أنها مارست “الخديعة” عمداً واستخدمت الوعود كأداة تخدير لتفجير الوضع من الداخل وإظهار الدروز لاحقاً كمن تمردوا على الدولة.
وفي الحالتين، فإن ما جرى هو نكث صريح بالاتفاق مع الشيخ الهجري واعتداء على موقعه الروحي والاجتماعي، وكأن المطلوب كان تهميش مرجعيته وإضعاف قراره.
احترام الخصوصية الدينية للدروز
لكن ما جرى في السويداء ليس مجرد اعتداء على طائفة، بل اختبار لوطن كامل. “اندبندنت عربية” تحدثت إلى أكثر من شخص في السويداء، أيضاً ومن خلال تتبع المزاج الشعبي والسياسي في تلك المحافظة ومنذ عام 2011 حتى اليوم، يمكن القول إن دروز السويداء يريدون شيئاً بسيطاً لكنه يبدو مستحيلاً حتى اللحظة، أن يُتركوا بكرامتهم. ووفقاً لكثر مهنم، هم لا يسعون إلى السلطة، ولا يطمحون إلى حكم سوريا أو تفكيكها، ولا يرغبون في التحول إلى “كيان مستقل” كما اتهموا زوراً، ولكن ما يريدونه حقيقة يمكن تلخيصه في بعض العناوين، وهي الأمان والكرامة، فأبناء السويداء لا يطلبون أكثر من أن يعيشوا بسلام في أرضهم من دون أن يفرض عليهم الانضمام إلى معسكرات النظام أو الميليشيات. ويريدون أن تحترم خصوصيتهم المجتمعية والدينية، وألا تهان رموزهم ولا تستباح مناطقهم تحت ذرائع واهية.
وما يطالبون به هو الحد الأدنى من الإدارة الذاتية، فهم ليسوا انفصاليين، لكنهم جربوا غياب الدولة وانكشاف الجبل في وجه الفوضى، فبنوا شكلاً من الإدارة المحلية، أمنية وخدمية، عبر “رجال الكرامة” وغيرهم، فقط لسد الفراغ ومنع الانهيار، وجل ما يريدونه هو إدارة شؤونهم بكرامة، لا أكثر، كما يرفضون عسكرة الجبل، فالدروز بطبعهم وتاريخهم ليسوا أهل ميليشيات ولا مرتزقة.
ورفض الدروز أن يكونوا جزءاً من حرب النظام السابق ضد أبناء درعا، عملاً بشعار رفعته قياداتهم الروحية وهو “دم الدم السوري على السوري حرام”، كما رفضوا دخول الجماعات الجهادية إلى الجبل. ويريدون الحفاظ على سلاحهم للدفاع، لا للاعتداء أو الخوض في مشاريع إقليمية.
وما يطالب به دروز السويداء الآن ليس طائفياً، بل وطنياً، فهم يطالبون بدولة تحكم بالقانون لا بالولاء، وتعترف بجميع مكوناتها وتكفل حقوقهم. والدولة التي يتطلعون إليها لا تحاصرهم لأنهم أقلية ولا تستخدمهم كورقة.
الانفكاك عن وصاية أجهزة الأمن
منذ عقود، تعرض جبل العرب لوصاية أمنية ثقيلة جعلت من كل شيخ مهدداً وكل ناشط ملاحقاً. وما يريدونه اليوم هو أن تنتهي هذه المرحلة وأن يتعامل معهم النظام، أو الدولة الجديدة بقيادة الرئيس الشرع كشركاء، لا كخطر يجب احتواؤه. ودروز السويداء يريدون أن يكونوا جزءاً من سوريا، لكن سوريا التي تحترم كرامتهم، لا تلك التي ترسل البدو مدعومين بالسلاح ليذلوهم، أو تلتزم الصمت حين تهان شوارب شيوخهم. يريدون دولة لا ميليشيات، وشراكة لا إذعان. ويريدون وطناً يتسع لهم، لا نظاماً يذكرهم كل يوم بأنهم طائفة صغيرة يجب أن تصمت أو تعاقب.