ما زالت تداعيات الإعتداءات على الشعب الفلسطيني من قِبل الجيش الإسرائيلي، تلقي بظلالها على المنطقة العربية، في ظل التوترات السياسية والاقتصادية الإقليمية الناتجة من محاولات التهجير القسري لمواطني قطاع غزة، والدفع بهم لاختراق الحاجز الحدودي تمهيداً لتوطينهم في الداخل السيناوي، ما يمثّل تهديداً مباشراً لسيادة الدولة المصرية وأمنها القومي.
في ظلّ الجرائم الإسرائيلية المتكرّرة، فإنّ الدولة المصرية حريصة على احترام التزاماتها الدولية، لا سيما في ما يخصّ الحفاظ على استمرارية اتفاقية “معاهدة السلام” الموقّعة بين القاهرة وتل أبيب في 26 آذار (مارس) 1979، رغم تهديداتها وتحذيراتها وفق سياسات “الخطوط الحمراء”، التي أعلنتها القيادة السياسية والعسكرية في المرحلة الراهنة.
قراءة المشهد السياسي في الداخل المصري، لا يمكن إخراجها عن التقلّبات الإقليمية، وعلى رأسها “القضية الفلسطينية” التي كانت عاملاً مهمّاً في حيوية التفاعل مع الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وارتفاع نسبة التصويت، والتي جاءت بالرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة لمدة 6 سنوات جديدة، وكأنّها بمثابة استفتاء على شرعية التعامل مع المتطلبات السياسية والعسكرية المتعلقة بالداخل الغزاوي، والسيناوي.
سردية الصراع المسلح المرتقب بين القاهرة وتل أبيب، لم تعد سراً مخفياً في الدوائر السياسية والعسكرية والدينية الإسرائيلية، بناءً على المظلة التمهيدية التي يقدّمها إعلام الدولة العبرية، ودعواته لإعادة احتلال سيناء، وفقاً لاعترافات الحاخام الإسرائيلي اليميني، عوزي شرباف، ومحاولاتهم الزعم بتفكير الدولة المصرية في إجراءات الخروج من إتفاقية “إطار السلام في الشرق الأوسط” المعروفة إعلامياً بـ”كامب ديفيد”، و”اتفاقية السلام” الثنائية.
عملية التفكير الجدّي في خروج القاهرة من اتفاقية “معاهدة السلام”، أو إعادة النظر في بنودها، وفقاً للمتغيّرات والسياقات السياسية والإقليمية، لا يملك الإجابة عنها سوى القيادة السياسية والعسكرية، في ظل الخروقات الإسرائيلية، واستمرار مخالفتها لقراري مجلس الأمن رقم 242 و338، لا سيما مبدأ الأرض مقابل السلام، وقيام الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين، في مقابل تمتعها بالمرور الآمن عبر الممرات المائية الدولية والبحر الإقليمي.
رغم مرور ما يزيد عن 44 عاماً على “معاهدة السلام”، فإنّ مواقف الشارع المصري والعربي، ما زالت منقسمة ومتباينة حول قبولها ورفضها، ما بين دورها وأهميتها في حقن الدماء، وعودة سيناء كاملة، وما بين أسبابها في تراجع الدور الإقليمي للدولة المصرية، وشطرها للصف العربي والإسلامي، إلى معسكر “الممانعة”، ومعسكر “الاعتدال”، فضلاً عن تعهدات الولايات المتحدة الأميركية في إطارها بالتدخّل العسكري، واحتفاظها بحقها في دعم إسرائيل في ما تتخذه من تدابير.
الإشكالية الكبرى لـ”معاهدة السلام”، تتمثل في مخالفة نصوصها التزامات القاهرة، ونسفها لمبادئ اتفاقية “الدفاع العربي المشترك” والموقّعة بين الدول العربية عام 1950، لمواجهة الدولة الصهيونية، تطبيقاً لأحكام المادة السادسة من ميثاق جامعة الدول العربية، لا سيما في ظلّ أهميتها خلال معركة “قطاع غزة” الراهنة، إذ تنص الفقرة الرابعة من المادة (5) من “معاهدة السلام”، على عدم دخول الطرفين في أي التزامات تتعارض مع بنودها، بينما تنص اتفاقية “الدفاع العربي”، على أنّ الاعتداء على أي من دول الإتفاقية، يمثل اعتداءً على بقية الدول الأعضاء، ويلزم دعم قدراتها العسكرية، ويحظّر عليهم عقد أي اتفاق دولي يناقض أحكام الإتفاقية.
جدلية التعارض بين “معاهدة السلام”، وتفعيل اتفاقية “الدفاع العربي”، ربما حسمتها تقارير محكمة العدل الدولية، التي بينت أنّ الاتفاقيات متعدّدة الأطراف مقدّمة في التطبيق والنفاذ على الاتفاقيات الثنائية، ما يسهم في إسقاط شرعية “معاهدة السلام”، وفقاً لتقرير “الهيئة القانونية” في الدفاع عن المتهمين في القضية رقم 714 لسنة 1987، والمعروفة إعلامياً بتنظيم “ثورة مصر”، والذي قاده ضابط المخابرات السابق، محمود نور الدين، اعتراضاً على”معاهدة السلام” مع الجانب الإسرائيلي.
واقعياً، منذ إبرام اتفاقية “معاهدة السلام”، لم تحترم أو تلتزم إسرائيل بنودها، في ظل خروقات فجّة تنمّ عن عدم احترامها للشرعية الدولية، واحتمائها الدائم بالولايات المتحدة الأميركية، ومحاولاتها صناعة صورة زائفة، موحيةً بأنّها “الدولة التي لا تُقهر”، في إطار بروباغندا إعلامية خادعة، وتكرارها التنصل من تعهداتها، بإخلاء “قطاع غزة”، طبقاً لما يُعرف بخطة “فك الارتباط”، أو اتفاقية محور “فيلادلفيا”، باعتباره منطقة عازلة تضمنتها معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979، واستمرار هجماتها الدموية على الضفة الغربية والقطاع الغزاوي، واجتياحها المتكرّر للأراضي اللبنانية، وتعدّيها على المجال الجوي المصري، تحت غطاء البحث عن قيادات المقاومة المسلحة، وتحويل قواتها على الشريط الحدودي، إلى لواء عسكري مسلّح.
ذهب عدد من الفقهاء الدستوريين المصريين، إلى أنّ “معاهدة السلام”، مجرد “اتفاقية جلاء”، تُلزم إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المصرية، ولا يترتب عليها أية آثار أو التزامات قانونية، وذلك إعمالاً للقاعدة القانونية التي تنص على أنّه “لا يجوز للمعتدي أن يجني ثمار عدوانه”، وأنّ القاهرة قامت بالتزاماتها وفقاً لمبدأ المجاملة الدولية، وليس التزاماً بقواعد القانون الدولي.
واعتبر المتخصصون القانونيون، أنّ اتفاقيتي “كامب ديفيد” (إطار السلام في الشرق الأوسط)، الموقّعة عام 1978، و”معاهدة السلام”، الموقّعة عام 1979، ليس لهما سند قانوني، لمخالفتهما مبادئ المعاهدات الدولية، ممثلاً في “اتفاقية فيينا” لقانون المعاهدات لعام 1969، فضلاً عن ترتيبهما التزامات في حق جهات ودول لم تشارك في التوقيع على المعاهدة، مثل سوريا والأردن ولبنان، ومنظمة التحرير الفلسطينية، من دون موافقتهم، وإغفالهما عمداً قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 بإنشاء دولة فلسطينية بجوار دولة يهودية.
الثابت تاريخياً أنّ الدولة المصرية تعتمد في شؤونها الداخلية والخارجية على السياسة الدبلوماسية الرصينة، المغلّفة بالقرارات المتزنة، مع احتفاظها بحق الردّ والدفاع عن أمنها القومي، بما يتراءى لها في الوقت المناسب، ومن دون انسياقها في أي مسارات عدائية تجاه أية دولة أخرى، ما يعزّز من صعوبة تطرّقها إلى عملية التخارج من “معاهدة السلام”، من دون دخولها دائرة التفاوض السياسي، وتغليبها للمشروعية الدولية، إلاّ في حالة التعدّي المباشر على أراضيها، وعلى سلمها الاجتماعي.
*كاتب مصري، وباحث في شؤون الجماعات الإرهابية